عبد الله سليمان الطليان
نقتطف هنا جزءاً آخر من كتاب (شرور شركات الأدوية) للطبيب البريطاني (بن جولديكر) عنوانه -أين تأتي العقاقير الجديدة؟ يقول يجدر بنا أن نذكر في هذه المرحلة أن جميع العقاقير تقريبًا التي لها تأثيرات مرغوبة تكون لها أيضًا آثار سمية غير مطلوبة إذا أخذت بجرعات أعلى مما يجب. وهذه إحدى الحقائق الثابتة؛ فنحن مخلوقات شديدة التعقيد، ولكن لدينا فقط حوالي 20 ألف جين؛ ومن ثم يستخدم الكثير من الوحدات البنائية في الجسم البشري أكثر من مرة؛ مما يعني أن ما يؤثر في هدف معين بالجسم قد يؤثر أيضًا في هدف آخر، بقدر أكبر أو أصغر، إذا أخذ بجرعة أعلى.
تتكون معظم العقاقير الجديدة من جزيئات تقليدية أكثر، وبوجه عام لا تتجاوز آثارها غير المستحبة أعراضًا مثل الغثيان والدوار والصداع وهكذا. وقد تحتاج أيضًا لأن يتناول قليل من المشاركين في الاختبار دواءً وهمياً لا تأثير له، وذلك حتى تحاول تحديد ما إذا كانت تلك الآثار المذكورة ناتجة عن العقار حقاً، أم أنها ناتجة فقط عن الشعور بالخوف والرهبة.
في هذه اللحظة قد تفكر متسائلًا: أي نوع هذا من المجانين المتهورين من يخضع جسده لتجربة مثل هذه؟ وإنني أميل للاتفاق معك في تعجبك؛ فهناك بالطبع تقليد طويل ونبيل من الخضوع للتجريب الذاتي في المجال العلمي.
قبل عقد الثمانينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة كانت تلك الأبحاث تجرى غالبًا على نزلاء السجون. ويمكنك أن تجادل قائلًا إن هذا الإكراه الصريح قد بدأت حدته تخف بعد ذلك، إن لم يكن قد انتهى تمامًا؛ فاليوم صار بعض الشباب الأصحاء يجعلون من أنفسهم حقول تجارب؛ حيث يشاركون في التجارب الإكلينيكية كوسيلة لكسب المال السهل إذا لم يجدوا خيارات أفضل من ذلك، وأحيانًا ما يفعل هذا بعض الطلبة أو من يعانون البطالة أو ما هو أسوأ. وهناك جدل أخلاقي مستمر حول ما إذا كان هؤلاء الناس يمكن أن يبدو أي موافقة حقيقية فيما يتعلق بالمشاركة في التجارب، علمًا بأنهم يعانون ضائقة مالية، ويواجهون ضغوطًا ماليةً جمة. وهذا يخلق حالة من التوتر؛ فمن المفترض أن تكون المبالغ المالية التي تعطى للمشاركين في التجارب قليلة، وذلك لتقليل احتمال أن تعرض عليهم إغراءات كبيرة للخضوع لتجارب خطرة أو مدمرة، وهذا الأمر يبدو بوجه عام آلية أمان جيدة، ولكن إذا عرفنا عدد من يبقون على قيد الحياة ممن يخضعون لتجارب المرحلة الأولى من تطوير الدواء، فإنني أتمنى أن يحصلوا على مقابل كبير. إنها حقاً حالة متطرفة.. ولكن حتى في أحسن الظروف يأتي المتطوعون من الطبقات الدنيا بالمجتمع، وهذا أمر يتسم بالفظاظة؛ إذ تجرى جميع اختبارات الأدوية التي نتناولها جميعًا - لنكن صرحاء - على الفقراء. وفي الولايات المتحدة، نجد أن هذا يعني الأشخاص الذين ليس لديهم تأمين صحي، وهذا يثير قضيةً أخرى مهمة، إذ ينص إعلان هلسنكي، وهو الدستور الأخلاقي الذي يشكل الإطار العام لمعظم الأنشطة الطبية الحديثة، على أن البحث العلمي يمكن تبريره إذا كان السكان الذين يجلب منهم المشاركون فيه سيفيدون من نتائجه. ويقول الفكر الذي وراء هذا الإعلان إن العقاقير الجديدة لعلاج مرض الإيدز- على سبيل المثال - يجب ألا تختبر على أناس من إفريقيا لا يستطيعون شراءها بسبب فقرهم. ولكن الأشخاص غير المتمتعين بالتأمين الصحي، الذين يعانون البطالة في الولايات المتحدة لا يستطيعون هم أيضًا الحصول على العلاجات الطبية العالية التكلفة؛ ومن ثم ليس من الواضح إن كان بإمكانهم الاستفادة من هذا البحث. وفوق كل هذا، فإن معظم الجهات الطبية لا تعطي علاجًا مجانيًا للمشاركين المصابين، ولا تمنحهم تعويضًا على معاناتهم أو حرمانهم من الأجور التي كانوا يتقاضونها. هذا عالم خفي وغامض سلط الأضواء عليه وأظهره للمجتمع الكاديمي كارل إليوت، أحد الاختصاصيين في مجال الأخلاقيات الطبية، وروبرت عبادي، وهو أحد علماء الأنثروبولوجيا الذي عاش بين المشاركين في التجارب البحثية في مرحلتها الأولى من أجل بحثه الخاص بدرجة الدكتوراه. وتطلق شركات الأدوية على هؤلاء المشاركين اسمًا متناقضًا هو (المتطوعون مدفوعو الأجر) وهناك ادعاء عام بأنهم لا يقبضون أجرًا نظير اشتراكهم في التجارب، وإنما مجرد تعويض عن الوقت الذي بذلوه ونفقات الانتقال. ولكن المشاركين أنفسهم يدركون الحقيقة.
ويتراوح ما يقبضه هؤلاء المشاركون في الغالب بين 200 و400 دولار يومياً، ويمكن أن تستمر الدراسات لأسابيع أو أكثر، وغالبًا ما يشارك هؤلاء في دراسات عدة في عام واحد. ويعد المال أمرًا أساسيًا في هذه العملية، وغالبًا ما يكون الدفع مؤجلًا؛ بمعنى ألا تستلم الأجر بالكامل إلا بعد انتهاء مشاركتك في الدراسة، فإذا انسحبت منها قبل انتهائها، فلا بد أن تثبت أن انسحابك كان ناتجًا عن آثار جانبية خطيرة للعقار الذي جرب عليك. وبصفة عامة، لا يجد أولئك المشاركون سوى القليل من البدائل الاقتصادية لكسب المال، ولا سيما في الولايات المتحدة، وكثيرًا ما تكون استمارات الموافقة التي تقدم لهم مطولة وغامضة، كما يصعب قراءتها وفهمها.
ويمكنك كسب مزيد من المال إذا عملت كـ(فأر تجارب) بدوام كامل، وكثيرون يفعلون هذا. في واقع الأمر إن كثيرين منهم يعتبرونها وظيفة، ولكنها غير منظمة ومعترف بها قانونًا مثل سائر الوظائف. ولعل السبب في هذا أننا نشعر بعدم الارتياح لاعتبار مصدر الدخل هذا مهنةً تحترف؛ ومن ثم تنشأ مشكلات جديدة؛ إذ يتجنب المشاركون بالتجارب الشكوى من سوء الأحوال بها مخافة أن يحرموا من المشاركة في أي دراسات في المستقبل،
لا يقتصر تساؤلنا على ما إذا كنا نشعر بالارتياح تجاه المقابل الذي يعطى للمشاركين في التجارب والرقابة على هذه العملية، بل يشمل أيضًا ما إذا كانت هذه المعلومات جديدةً تمامًا علينا أم أنها كانت موجودةً ولكن كانت تخفى. ربما تتصور أن الأبحاث جميعها تجرى في الجامعات، وقد يكون هذا صحيحًا منذ عشرين عامًا مضت. ولكن ما حدث مؤخرًا وبمعدل سريع جدا أن جميع الأنشطة البحثية تقريبًا أصبحت تجرى في الغالب بعيدًا عن الجامعات ويعهد بها إلى مؤسسات صغيرة خاصة للأبحاث الإكلينيكية، التي تتعاقد من الباطن مع شركات الأدوية، وتجري تجاربها في أنحاء العالم. وهذه المؤسسات صغيرة جدا وموجودة في أماكن متفرقة، ولكنها لا تزال مراقبة بأطر صممت لمواجهة المشكلات الأخلاقية والإجرائية التي تنشأ في الدراسات المؤسسية الكبيرة، وليس تلك الخاصة بالشركات الصغيرة. وفي الولايات المتحدة، بصفة خاصة، لديك فرص عديدة لاعتماد تجاربك من إحدى لجان أخلاقيات البحث؛ فإذا خذلتك إحداها، يمكنك ببساطة أن تنتقل إلى واحدة أخرى.
في الولايات المتحدة، حيث يوجد ملايين كثيرة من الناس غير قادرين على سداد تكاليف الرعاية الصحية، عادةً ما تسوق التجارب الإكلينيكية كوسيلة للحصول على خدمات طبية مجانية من فحوص من الأطباء، وفحوص بالأشعة، واختبارات دم وعلاجات طبية. وقد أجريت دراسة لمقارنة الحالة التأمينية للأشخاص الذين وافقوا على المشاركة في تجربة إكلينيكية ما، والذين امتنعوا عنها؛ صحيح أن المشاركين في التجربة كانوا من خلفيات مختلفة، إلا أنه تبين أن الذين وافقوا على المشاركة فيها كان احتمال عدم امتلاكهم لتأمين صحي أكبر بمعدل سبع مرات. كما فحصت دراسة أخرى الاستراتيجيات
المتبعة لزيادة الاستعانة بأشخاص من أصول لاتينية للمشاركة في التجارب الطبية، وهم جماعة من السكان يعانون تدني الأجور، وسوء حالة الرعاية الصحية بدرجة تزيد عن المتوسط. وقد تبين من الدراسة أن 96 بالمائة منهم وافقوا على المشاركة في التجارب، وهو معدل يزيد كثيرًا عما كان متوقعًا في العادة.
وهذه النتائج تعكس ما لاحظناه في التجارب، حيث كان من يعانون الفقر الشديد هم وحدهم الذين يتقدمون للاشتراك في الأبحاث، وهذا يثير القضية الأخلاقية نفسها؛ إذ يفترض أن المشاركين في التجارب ينتمون أصلًا إلى الذين يمكن واقعيا أن يستفيدوا من النتائج والحلول التي تقدمها تلك التجارب. فإذا كان المشاركون هم غير المتمتعين بالتأمين الصحي وكانت العقاقير متاحةً فقط للمتمتعين به، فمن الواضح أنذلك الافتراض لا يكون واقعياً.
إلا أن الاستعانة الانتقائية بالفقراء في التجارب في الولايات المتحدة يعد أمرًا هينًا إذا ما قورن بتطور جديد نجد كثيراً من المرضى، بل الكثير أيضًا من الأطباء والأكاديميين، يجهلونه تمامًا، وهو أن تجارب العقاقير أصبحت تجرى على نحو متزايد في دول تتسم بتدني مستوى الرقابة على الأدوية والرعاية الطبية، وتعاني مشكلات طبية مختلفة، كما تحتوي - في بعض الحالات - على مجموعات سكانية مختلفة تمامًا.
وتعد مؤسسات الأبحاث الإكلينيكية ظاهرةً جديدة تمامًا؛ فمنذ ثلاثين عامًا مضت لم يكن أيٌ منها موجودًا إلا نادرًا، والآن يوجد منها المئات، التي حققت دخلًا وصل في عام 2010 إلى 20 مليار دولار، وهو ما يمثل ثلث كل ما ينفق على البحث والتطوير في مجال الدواء. وهذه المؤسسات تجري غالبية التجارب الإكلينيكية نيابةً عن شركات الأدوية، وفي عام 2008 أجرت أكثر من 9 آلاف تجربة، شارك فيها أكثر من مليوني شخص، وذلك في 115 دولة حول العالم.
تثير تلك النزعة التجارية التي تكتنف إجراء الأبحاث التجارية مخاوف جديدة عديدة. أولًا، وكما ذكرنا من قبل، كثيرًا ما تفرض شركات الأدوية ضغوطًا على الأكاديميين الذين تمول تجاربهم، وتثبطهم عن نشر النتائج التي في غير صالحها، وتشجعهم على تغيير طرق بحثهم واستنتاجاتهم حسب هواها. وحينما يتصدى الأكاديميون لهذه الضغوط، تتحول التهديدات الموجهة إليهم إلى وقائع مقيتة. فمن ذلك الموظف بإحدى مؤسسات الأبحاث الإكلينيكية أو الرئيس التنفيذي لها الذي يجرؤ على التصدي لشركة الأدوية التي تدفع له مباشرة، بينما يعرف كل طاقم العمل في تلك المؤسسة أن آمالهم في الحصول على أعمال مستقبلية تتوقف على كيفية إرضائهم لكل عميل يعملون معه؟
وهناك اعتبارات ثقافية أخرى؛ فالتجارب ليست طريقًا باتجاه واحد؛ فهي أيضًا وسيلة لخلق أسواق جديدة، في دول مثل البرازيل، وذلك بإعادة صياغة أعراف الممارسة الإكلينيكية، وتغيير توقعات المرضى. أحيانًا يكون هذا أمرًا حسنًا، ولكن يمكن أن تخلق التجارب أيضًا توقعات في عقاقير لا يمكن الحصول عليها. بل يمكن حتى - عن طريق تشويه أسواق التوظيف المحلية - أن تسحب الأطباء الجيدين بعيدًا عن أعمالهم الإكلينيكية في مجتمعاتهم الأصلية إلى وظائف بحثية (تمامًا كما اجتذبت أوروبا إليها عن طريق الهجرة أطباء وممرضين أنفقت عليهم دولهم النامية أموالًا طائلةً لتعليمهم وتأهيلهم.