م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. قرأت باهتمام بالغ أحدث إصدارات المفكر الكبير إبراهيم البليهي بعنوان: (حضارة معاقة).. وهو امتداد لإصداراته السابقة ومقالاته ومحاضراته التي تركز على الإنسان فكرًا وهوية وتلقائية وفاعلية ونسقاً، وكل ما يمت له بصلة في سبيل بناء حضارة.. مما يجعل «البليهي» حلقة فكرية مهمة في هذه المرحلة التي تمر بها المملكة، وتتطلع فيها إلى بناء حضارة تضع مجتمعنا السعودي في مقدمة المجتمعات الإنسانية.
2. تكمن أهمية فكر الشيخ البليهي في أنه مهتم بالتوجه الفاحص الناقد، وبالمعرفة الموضوعية المجردة التي لا يُنْتَظر منها نفع مباشر.. وهذه من الخصائص الفردية النادرة.. فليس في دائرة اهتمامه الاحتياجات اليومية ومتطلبات البقاء والتنافس على المكانة الاجتماعية ولا الأمور الجزئية، ولكن فكره منصب على الكُليات.. إنه من هؤلاء المفكرين المنشغلين بما هو خارج اهتمام العموم، وبالتالي فلا يدري عنه من هو خارج مجال الفكر، وهم الأغلبية الطاغية.. فهو من الذين يندفعون نحو البحث والتقصي بهدف الاكتشاف والمعرفة وليس بحثًا عن الشهادة أو الوظيفة أو الوجاهة.. وهذا يجعل منه حالةً فريدة ونادرة في كل المجتمعات وليس مجتمعنا السعودي فقط.
3. الشيخ إبراهيم البليهي مفكر سعودي ولد عام (1944م)، اتسم بأنه شديد المباشرة في حديثه وفي كتاباته.. واضح وسريع الإشارة في أفكاره، يقدم فكرته من السطر الأول مع جودة أسلوبه في تقديم الأفكار الكبيرة بلغة سهلة مفهومة للجميع.. لكنه في ذات الوقت مفكر شخصيته صدامية غير مهادنة ولغته الحوارية حادة.. وفكره ذو بعد إنساني محض يتجاوز عروبته وإسلاميته ويحارب توهم الكمال فيهما، لذلك تنضح كتاباته بالسخط والمرارة والتوجع وجلد الذات.. ولا عجب في أنه استغرق في بحث قضايا الجهل والتخلف والريادة والاهتمام حتى أنشأ في كل منها نظريات جديرة بالانتباه والالتفات من مؤسساتنا الثقافية، صدرت في كتب عناوينها: علم تأسيس الجهل، وعبقرية الاهتمام التلقائي، والريادة والاستجابة، والعقل يحتله الأسبق إليه، وبنية التخلف، وحصون التخلف.. أما أحدث إصداراته فهو كتاب (حضارة معاقة).
4. لماذا وصفت الشيخ البليهي بأنه سقراط السعودية؟ الذي دفعني لذلك هو التشابه الكبير بينهما.. فكلاهما جعل الإنسان محور فكره، وكلاهما اتسم بذات السمة وهي سوء الاتصال بالآخرين.. فسقراط بسبب سوء اتصاله بالآخرين استعدى عليه القوى المسيطرة في زمنه فسُجن وحُكم عليه بالإعدام ثم أُعدِم.. والشيخ البليهي لو أنه كان في وقت غير وقتنا هذا لربما حُوكم وأُدين، أو ربما تعرض لمحاولة اغتيال من قبل أمي بسيط تم شحنه حتى يُقْدم على فعله.
5. حدة الشيخ البليهي في ردوده على سائليه، وحدته في نقده لحال العرب والمسلمين، وحدة انحيازه لحضارة الغرب وتمجيده لها، وحدة وقوفه عند رأيه ألَّبت عليه البعض.. فهو في نظرهم قد جاهر بتقديره لعدو نراه سبب تخلفنا وأنه يتآمر علينا وليس له شاغل إلا تدميرنا، فتجنبه البعض من النخب خوفًا من حدته، وحاربه البعض من العامة بألسنتهم، فلم يرد عليهم تقليلاً من شأنهم المعرفي فاستفزهم ذلك أكثر.. وبذلك انعزل بعيدًا فلا يُدْعى للمحافل الثقافية خوفًا منه وخوفًا عليه.
6. من الواضح أن الشيخ البليهي شخص غير مرغوب فيه من البعض إن لم يكن من الأكثرية، لكن هل ينفي هذا أنه اليوم المفكر السعودي الأول إن لم يكن المفكر العربي الأول بأطروحاته الجديدة والمختلفة؟ هل نخسر قوة فكرية مهمة للمملكة والعرب فقط لأن حدته وضعفه في إدارة علاقاته العامة استفزتنا لإقصائه؟ أم لعلنا ننتظر موته ثم تأتي بعدنا أجيال يدرسون أطروحاته ثم يقولون لنا أي فتىً أضعنا!
7. جهد الشيخ البليهي لم يكن صغيراً أو سهلاً أو بلا مواجهات إقصائية، لكنه أثمر في النهاية عن طرح قادر على إيقاظ المجتمع من سبات البرمجة وسبات الاعتماد على السابق والسائد والمعتاد.