د.فوزية أبو خالد
مكتبة الملك سلمان بجامعة الملك سعود/ ومكتبة مركز الدراسات الجامعية للبنات
علاقتي بمكتبة جامعة الملك سعود أنا وجيل من نساء المملكة ممن ابتدت حياتهن الجامعية طالبات، معيدات أو محاضرات علاقة تستحق التسجيل لما فيها من قلق نفسي وتوتر اجتماعي وسجال وجداني ومعرفي. فأنا شخصياً أشعر أن علاقتي الأولى على الأقل، بتلك المكتبة البعيدة عن اليد والعين القريبة من العقل والقلب (مكتبة الملك سلمان الآن) كانت مثل علاقة طفل يعرف أن تلك الفارهة باذخة الجمال هي أمه ولكنه يجدها نائية المزار ليس لمنهلها سبيل سالك وليس لطلب ودها منال سهل..، بينما تلك الأنا العاشقة المتضورة تتخبط على أثداء مرضعات مؤقتات.
فقد درَستُ في مطلع حياتي العملية بقسم الدراسات الاجتماعية بعد عودتي من أمريكا بدرجة البكالوريس في علم الاجتماع، بعض المواد مع دكتورات في التخصص ولكن لا يجدن اللغة العربية (د. يكن أتارتوك، د. سو الفيصل)، وبعضها بشكل مستقل ومنها مقرر مبادئ علم الاجتماع ومقرر الإحصاء العام ومقرر علم اجتماع الأدب ومناهج البحث العلمي والفكر الاجتماعي عند العرب. ولم يكن أمامي لتعويض ذلك النقص الحاد في الكتاب الجامعي ولتعويض ضعف موضة تلك «المذكرات» المهلهلة التي كان يجري الاعتماد عليها كمراجع للمقررات إلا الاتجاه لمكتبة الجامعة بحثاً عن مراجع ومصادر تعليمية حقيقية بديلة للمعتاد وجديرة باسم تعليم جامعي..، إلا أنني فوجئتُ بأن دون الوصول إلى مكتبة الجامعة المركزية خرط الرقاب، فلم تكن بعد قد تبلورت مطالبات الطالبات وعضوات هيئة التدريس ليكون لنا نصيب في المكتبة المركزية وبالتالي لم نكن قد وصلنا بعد لمرحلة سن يوم وحيد في الأسبوع/ يوم الخميس لزيارة المنتميات للجامعة لتلك المكتبة. إلا أن البديل لم يكن معدوماً تماماً فقد كانت توجد مكتبة بمركز الدراسات الجامعية البنات على أرضه الواقعة حينها بمنطقة عليشة غرب مدينة الرياض. وعلى تواضع ممتلكات تلك المكتبة في الكتب ناهيك عن أمهات الكتب والدوريات المتخصصة فقد قيض الله لنا بها سيدة شعلة في الاهتمام بالكتب ضليعة في علم المكتبات فكانت أ. فايزة الصباحي من مصر من أهم مراجع المكتبة في محاولة التيسير والمقاربة والتسديد لتوفير ما أمكن توفيره من كتب التخصص في تلك المكتبة المحدودة مساحة ومصادرًا. كما كان لها الفضل حقيقة في تدريب عدد من الكوادر السعودية على نظام المكتبات وبعضهن لم يكن لهن خلفية متخصصة في المكتبات إلا أنها عملت بإخلاص وعلى مدى سنوات قابله إخلاص منهن في التعلم والعمل بما وفر لنا كمرتادات للمكتبة بيئة صديقة للبحث وللكتاب. وكان منهن أ. فوزية الخضير التي كانت جندياً مجهولاً حتى بعد أن أصبحت مسؤولة عن المكتبة خلف توفير المراجع للبحوث وللمقررات ما وسعها ضيق ذات اليد لسبيل الاستعارة والتصوير والتواصل مع المكتبة المركزية لتوفير ما أمكن توفيره من كتب. كما أن امتداد الساعات المكتبية لعمل المكتبة لساعتين أو ثلاثة ما بعد اليوم الدراسي للمحاضرات قد شكَّل ولو تعويضاً معنوياً نسبياً لغياب المكتبة بمفهومها الجامعي العالمي عن سماء الدراسات الجامعية للبنات في مجاليليات العلوم وكليات التربية والاقتصاد والآداب. بعدها بسنوات لم تطل وخاصة بعد أن افتتح برنامجاً للدراسات العليا لدرجة الماجستير للبنات، وكان ذلك في الثمينانات الميلادية سمح بيوم واحد في الأسبوع لزيارة المكتبة المركزية بالجامعة من قبل منسوبات مركز الدراسات الجامعية للبنات بشقيه للعلوم الطبيعية والطب وللعلوم الإنسانية.
كانت المقارنة مؤلمة أو بالأحرى لم تكن هناك مقارنة بين مكتبة صغيرة تتكون من طابقين ضيقين وبالكاد تتسع للباحثات والطالبات وبين مكتبة تتكون من طوابق عدة فسيحة وبمعمار جميل يدخله ضوء النهار من جميع الجهات، به بهو بهي واسع تزينه اللوحات والواجهات الزجاجية لعرض الكتب الجديدة أو النادرة مع مجسد لسرب من الطيور يشكل سماء لذلك البهو مع نظام متقدم من فهرسة الكتب سواء في تصنيفها المكتبي وبطاقاتها أو في ترتيبها على الرفوف حسب التخصصات مع تنوع بدى مغرياً وكأن الشغوفات بالمكتبة قد خرجن من مفازة التحصر بمكتبة عليشة لمركز الدراسات الجامعية للبنات إلى لواحة غناء لمكتبة الملك سلمان على أرض الحرم الجامعي بالدرعية المخصص لطلاب جامعة الملك سعود. كان هناك في المكتبة بطبيعة الحال غرف علوية للخلوة الدراسية والبحث إلا أننا نادرًا ما كنا نخلد إليها بسبب أن يوماً واحداً في الأسبوع كان بالكاد يكون كافياً للبحث عن ضالتنا من الكتب والمراجع وخصوصاً قبل العمل بنظام الكمبيوتر وبنظام الاستعارة الآلي في المكتبة ومن المكتبة. إلا أنني قضيتُ بين المكتبتين، عبر عقدين مختلفين نوعياً من تاريخ وجودي في الجامعة، أجمل الأوقات بكل ما يعنيه الجمالي المعرفي للكلمة. فقد كنتُ في تواريخ المد والجزر معاً أشعر بالتحرر في المكتبة من كل أنواع الضغوطات فأسرح مع تلك الأرواح التي ضحت بحياتها من أجل أن تعلق قناديل الفكر ومشاعل التساؤلات للباحثين عن قبس في نهاية المطاف أو خيط شعاع يدل على بدايات جديدة. لقد دأبتُ على عادة تتجدد مع كل فصل دراسي على اصطحاب طالباتي إلى المكتبة أيًا كان المقرر من باب رفع الكلفة بين الطالبات وبين الكتب بارتيادهم للمكتبة عقر دار الكتاب والتحول في العلاقة مع المكتبة من علاقة الزيارات الخاطفة الجبرية أو المجاملة لضرورات هذا المقرر أو ذاك للتحول إلى سكان لهذه الدار بحيث يشعرن بالألفة مع الكتب ورفوف الكتب ومع صمت المكتبة وهمسها أو تسبيحها في سرها وسرهن. وبما أن الطالبات الجامعيات على خلاف طالبات الدراسات العليا نادرًا ما كن قد مررن بتجربة زيارة المكتبة المركزية لجامعة الملك سعود، فقد حرصتُ وبالذات في مقرر البحث الميداني (بحث التخرج) الذي نادرًا ما كان يمر فصل دراسي دون أن اضطلع بتدريس شعبة من شعبه العديدة، على أن نقضي أنا وطالباتي سحابة يوم الخميس طوال الفصل الدراسي في المكتبة من الساعة العاشرة للساعةالخامسة في الغالب. فكنا نقضي كل خميس من الفصل الدراسي في البحث فيما يخص المادة النظرية للبحث الميداني ثم بعد ذلك نستقل بأحد القاعات بما لا يخرب الهدوء المطلوب في المكتبة لعمل الطالبات المشترك على الربط بين المادة النظرية والمادة الميدانية باتباع الإجراءات المعمول بها في تطبيق المنهج العلمي للبحث. ولا أنسى الأنس والحماس الذي كان يبعثه في نفسي وفي نفوس الطالبات وجودنا البحثي طوال فصل دراسي كامل بين أحضان الكتب في رحاب المكتبة وفضاءاتها الشاسعة كوطن حبيب.