التراث الثقافي غير المادي (التراث الحي أو التراث المجتمعي) أصبح من العناصر الثقافية المعترف بها على المستوى الدولي بعد تبني منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي وتوقيع عدد من الدول على هذه الاتفاقية بما فيها المملكة العربية السعودية، ويعتبر التراث غير المادي مرتبطاً بالشعوب ويعتمد بشكل أساس على الجماعات والمجتمعات، لذلك جاء في المعنى العام لتعريفه الرسمي كل ما يقع تحت الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات التي يقوم به الفرد أو الجماعة ويعتبرونها جزءاً من هويتهم الثقافية، وكذلك كل ما له علاقة وارتباط مباشر أو غير مباشر من الأدوات والآلات وأماكن ممارستها وأدائها ... إلخ.
كما تم الاعتماد والاعتراف بأن مجالات التراث الثقافي غير المادي خمسة مجالات وإن كانت مختلفة إلا أنها ربما تتداخل وتتشارك فيما بينها وهذا ما يعزِّز أهمية التراث الثقافي غير المادي وجدوى ارتباطه بالفرد والمجتمع، وهذه المجالات كما جاءت رسمياً هي:
1- التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي.
2- فنون وتقاليد أداء العروض.
3- الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات.
4- المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون.
5- المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
ويعتبر الشعر واحداً من عناصر التراث الحي التراث غير المادي، وهو محور الحديث في هذا الموضوع، وعلى لسان شاعر الوطن خلف بن هذال العتيبي، وفي إحدى قصائده في مهرجان الجنادرية جمع المجالات التي اعتمدها اليونسكو كمجالات رئيسة للتراث غير المادي وبكل تأكيد ليس باستناد منه على الاعتماد الدولي، ولكن للارتباط المباشر بالتراث، ومدى التعامل معه كهوية ثقافية رئيسة للمجتمعات، حيث كان المعنى الأساس للقصيدة عن التراث عندما بدأ موضوعه بقوله:
التراث يعيد للحاضر أجمل ذكريات
ينقل الماضي بنفس المكان ويرسمي
مارثت جدات وأجداد واباء وامهات
والتراث ليا غدا وش حياة حياة الآدمي
وبهذا الاستهلال التراثي شيء من الاستشراف للعناية بالتراث وحفظه، وهو ما نعيشه اليوم من جهود رسمية وغير رسمية تعمل على حفظ التراث وتقديمه.
ومحور الموضوع يبدأ عندما ذكر جمع مجالات التراثي غير المادي في أحد عشر بيتاً بصورة مرئية شعراً، جمعت أطراف الجمال والهدف في إناء تراثي، وكون الشعر جزءاً من التراث غير المادي إلا أن استخدامه لخدمة عناصر التراث الأخرى يعكس الأهمية التاريخية الممتدة للشعر في حياة الإنسان، وعكس هذه المجالات على المفردات على مكونات التراث باللهجة المحليّة جعل تقديم هذه العناصر وثيق وقريب من المستمع والقارئ، وشد الانتباه في فيه قوله:
يوم أنا والريم والطير نسرح في فلات
بدوي وأرعى نياقي وأتاحي ل غنمي
وهذا البيت فيه من الصور البديعة ما يدعو إلى التعمق في قراءته إلا أنه سيأخذنا إلى خارج الهدف الأصل من المقال، وقد أدرج الشاعر في هذا البيت مجال الممارسات الاجتماعية كأحد مجالات التراث غير المادي، وفي بيت آخر جمع أيضاً الممارسات والمعارف المتعلقة بالطبيعة والكون في قوله:
فالخلا وأخط بالرجل وأقيم الصلاة
وأشكر الله وأعبده ما عبدت الدرهمي
كذلك، يجمع تلك المجالات السابقة مع المهارات المتعلّقة بالحرف اليدوية بقوله:
ناصبٍ بيت الشعر والرفاف مشرّعات
والذلول مقيّدهن والعبيّة ترهمي
والشبوب السمر والجمر سامر ما يبات
والطعام التمر نعم الغذا والمطعمي
وكما يعلم الجميع بأن السدو والنخيل والمجلس عناصر أصبحت في قائمة التراث العالمي، ويعزز هذه المجالات أيضاً باستعراض عناصر أخرى من الممارسات والمعارف والمهارات الحرفية بقوله:
والرشا والدلو والبير ما عنهن غناة
والجمل والحرث والغرس كنز الموسمي
وتأكيداً لدور القهوة كرمز للكرم، وأحد عناصر التراث العالمي من المملكة، يبدأ باستعراض مكوناتها الرئيسة في كل منزل عندما قال:
عندي المحماس والنجر ودلالي خوات
وانتخي وأعشي الضيف وأفخر بكرمي
إلى قوله:
واتنفذ للعدا والوحوش الضاريات
واتقن التصويب ويصيب سهمي
وان سريت بخرمس الليل أدلْ من القطات
مهنتي وأعرف حصى الأرض وأسماء الأنجمي
وهنا يؤكد الارتباط المباشر بين الإنسان ومجالات التراث غير المادي من مهارات وممارسات ومعارف بالطبيعة والكون، وقلّما تجد قصيدة تستعرض جميع عناصر التراث غير المادي بهذه الطريقة العفوية، ولكن مثل هذه القصيدة يمكن أن نعتبرها شاهداً على رعاية تراثنا وعرضه، واستحضارها محليّا ودولياً كدليل على الارتباط الوثيق بيننا وتراثنا، وفي مجمل القصيدة استعرض جميع العناصر، كلغة وأداء وعرض مسرحي يتمتع بها شاعر الوطن مسترسلاً ومعرّجاً بربط مجالات التراث بصور حيّة للمستمع، فقد قام بدور مؤسسي كبير وهو يقدم هذه العناصر صوتًا وتصويراً وروحاً ليجعل التعايش اللا مباشر بين المستمع والتراث إيحاء حي.
** **
- مرضي بن سعد الخمعلي
@mardhisaadd