د.عبدالله بن موسى الطاير
الاتصال الشخصي لنقل معلومة أو حجاج يبقى ضمن دائرته المكانية، وقد ينتهي أثره بانتهاء الحدث، فينفض المجلس وتوصد الأبواب على ذلك الفعل الكلامي بحسناته وسيئاته. المنخرطون فيه لم يُحضروا أنفسهم لنقل معلومة إلى القرية أو الحي أو حتى القرى والأحياء المجاورة، وإنما قصد المرسل بحديثه الشخص أو الأشخاص الماثلين أمامه. فإذا انتقل الاتصال من شخصي إلى جمعي، وجدت أن خطيب الجمعة محصن بنصوص دينية تحمي خطبته، فلا أحد يقاطع كلامه بالموافقة أو الاعتراض، وكل ما عليك هو أن تسمع سواء اتفقت أو ترك وعظه في نفسك غصة، وسواء انتشيت سعادة وتدافعت المعاني للتعبير عن مشاعرك، فإن تلك التفاعلات تبقى حبيسة في صدرك ولن يسمعها المصلون الذين تجمعوا لسماع خطاب في اتجاه واحد.
الاتصال الجماهيري تدفق في اتجاه واحد أيضاً، صحيح أن وسائله تتعدد بأجندات مختلفة ومن يملك القوة يضمن انتشار المحتوى الذي يغرق به المستمعين والمشاهدين، لكن يغيب عنه التفاعل الآني الذي يكون في العادة مشوباً بالحماس وحرارة ردود الفعل وقد يصل إلى مرحلة من الاندفاع التي تقلب المشهد الاتصالي إلى حلبة صدام جسماني بين المؤيدين والمعارضين. لقد غاظ الغرب خطابات دول الجنوب التي تكتظ الشوارع لها بالتأييد، وتزدحم بلون واحد من البشر لا يتفاعلون بين مؤيد ومعارض وإنما ينساقون بوابل الشعارات والوعود كقطعان تتمايل طربا على أهازيج الراعي.
في تلك العصور البائدة للاتصال الجماهيري المتحكم فيه، كان العلماء يحذرون من الجماهير، وينذرون من خطر تفاعلهم المتزامن لأنهم يتحركون كالسيل الهادر يقتلع كل ما يعترض سبيلهم. استخدمت الدول الإعلام الموجه في مقابل خطاب الدول المناوئة لها التي تحاول العبث في إعدادات الشعوب المطيعة، والعمل على استثارتها بوصفات متنوعة من التحريض عبر إذاعات موجهة كما كان في عهد المد القومي العربي، أو من خلال إذاعات دولية مثل «هنا لندن، وإذاعة مونت كارلو، وصوت أمريكا. حقبة الإذاعات الموجهة والإعلام الجماهيري اتسمت بالتدفق غير العادل للمعلومات من الشمال إلى الجنوب، ولم يكن الجنوب قادراً على إيصال صرخة ألمه. بيد أن السلطة الجبارة للمعلومة المسيرة في اتجاه واحد لم تحقق الكثير في إقناع الدول والمجتمعات باعتناق الديموقراطية الليبرالية، ولم تسجل تلك المرحلة نجاحات تذكر.
شبكات التواصل الاجتماعي جاءت لتكون مرحلة متطورة لمراحل سابقة فشلت في إحداث التغيير المطلوب، وهدفت إلى إعطاء منابر لمن لا منابر لهم من الجماهير، ولذلك مثلت هذه النسخة من الاستهداف نقلة نوعية في استحثاث التفاعل وحرمان الدول من عامل الوقت الذي يمكّن رسائلها الوطنية دون مساءلة أو تحدي من المتلقين، فالمواطن الفرد باسمه الصريح أو المستعار يستطع اليوم أن يتحدى رسائل حكومته، وينتقدها ويحللها ويكشف ما تتضمنه من مغالطات حال بثها، وبذلك يزرع الشك فيها مبكراً، ويتناقل الذين يشبهونه في الفكر وجهة نظره فتتشكل تيارات لحظية معارضة، مما يفترض أنه يحرم الحكومات من بناء خطاب وطني يعزز اللحمة الداخلية.
ما قلل المعسكر الغربي من أهميته هو أثر شبكات التواصل الاجتماعي على المجتمعات الغربية نفسها، فالمثالية التي ادعوها فترة طويلة، وأنماط الحياة والثقافة التي ظُن أنها الأفضل انكشفت سوءاتها عبر شبكات التواصل الاجتماعي فانزاحت حصانة المجتمعات أمام سطوة شبكات التواصل الاجتماعي التي أعطت لكل صوت منبراً يتحدث منه إلى الجميع وعممت الرسائل الشخصية، وتحولت الفضاءات إلى ميادين للحشد والتحدي والصدام، واعتدل ميزان تدفق المعلومات إلى حد ما بين الشمال والجنوب، فاستمعت وشاهدت المجتمعات البشرية الغربية محتوى الجنوب، مما أدى إلى ردود فعل غير مواتية لصنَّاع التغيير الذين تيقنت أنفسهم أن مجتمعاتهم لا تحتاجه أو أنها عصية عليه.
اليوم تمثّل شبكات التواصل الاجتماعي الخطر الأكبر على الديموقراطية، فهي عند البعض مسؤولة عن تلويث البيئة الديمقراطية من خلال الأخبار المزيفة، والدعاية الرقمية، والاستهداف المباشر، والإعلانات السياسية. شبكات التواصل الاجتماعي متهمة في الغرب بإنشاء فقاعات تصفية سياسية وصعود الشعبوية، والاستقطاب السياسي، وتنامي موجات الكراهية ضد النساء والأقليات، ونشر التطرف اليميني والراديكالية، وتفشي الفوضى السياسية، لكن المدافعين عنها يدفعون بأن شبكات التواصل الاجتماعي لم تزد على أنها أعلنت خبر احتضار الديموقراطية الذي كان طي الكتمان. شبكات التواصل الاجتماعي ستغير المألوف في مجتمعات الشمال والجنوب على حد سواء، وهو ما يعجّل بالتنادي لصياغة ميثاق دولي لهذه الممارسة العابرة لكل الثوابت والمسلمات.