د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
عندما انشق نور الثقافة في بلادنا من خلال بوابتها الأم (وزارة الثقافة) وأضاءت هيئاتها الوليدة كل المفاوز والدروب التي تستهدف الذهنية الثقافية السعودية بامتلاءات وافرة -بإذن الله؛ عند ذاك تنامى الشغف بأن هناك حصاداً نضراً، وحِراكاً سعيداً نحو العقول السعودية السعيدة أيضاً، وتأسيساً على أن المكيال الأول الذي يحمل المعرفة الثقافية هو الكتاب، وتحقيقاً للاندماج الثقافي المجتمعي مع الكتاب، وتفعيلاً لصلات الكتاب السعودي محلياً وعالمياً لابدَّ من تعبئة طاقات المثقفين، وأن تتبنى هيئة المكتبات في وزارة الثقافة فكراً إستراتيجياً ثقافياً شاملاً يستفيد من غزير الفكر الوطني؛ ومما بين دفتي الكتب المستحصلة من تراكم الحراك الثقافي في عمومه منذ عهود، ومما يسهم به أعلام بلادنا ورجالات الفكر الثقافي الشامل من حصادهم الزاخر تأليفاً واقتناءً في مكتباتهم الخاصة التي أهدوها للمكتبات الرسمية في بلادنا، مثل مكتبة الملك عبدالعزيز العامة ومكتبة الملك فهد الوطنية وغيرهما في حياة أولئك الأعلام من رواد الثقافة في بلادنا في بداياتها وحواشي نهضتها الحديثة أو وصية بعد رحيلهم -رحمهم الله؛ أو مما تحتضنه أروقة منازلهم من نفائس الراحلين، وتستضيفها المكتبات الوطنية وتصنفها تحت وسم (المجموعات الخاصة)، وتندمج تلك المكتبات في رواق المكان يحيطها وقار الثقافة والمثقفين ونبض الأوعية القرائية، وهي تضربُ في جذور الماضي, وتنزع نحو الأصالة, ويخوض بعضها الآخر سباقاً بين الأزمنة الحاضرة والماضية، ليحملنا إلى الوعي الذي عُدّته وقوامه الثقافة التي تتربع المكتبات على سدة مصادرها!
والمكتبات الخاصة كثيرة وفيرة لعقول وطنية يفخر بها تاريخنا الوطني الثقافي، نذكر على سبيل المثال وليس الحصر ما تضمه مكتبة الملك فهد الوطنية إهداء أمثال مكتبة عبدالله بن خميس، وسعد الجنيدل وعثمان الحقيل، ومحمد حسن زيدان، وعبدالفتاح أبو مدين، ومحمد منصور الشقحاء، وفوزان بن عبدالعزيز الفوزان، وأبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وعبدالسلام هارون وعبدالله بن عمر آل الشيخ وعبدالله بن عبدالعزيز العنقري، ومثال آخر ما تحمله رفوف مكتبة الملك عبدالعزيز العامة أمثال مكتبة أحمد الوشمي ومكتبة عابد خزندار ومكتبة الدكتورة وفيقة الدخيل -رحمهم الله جميعاً- وغيرهم كثير تقصر مساحة المقال عن حصرهم! ولقد اطلعتُ في مكتبة الملك فهد الوطنية ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة على إحصاءات دقيقة للعدد، ودائماً ما ترافق تلك المكتبات رغبات من أصحابها أو ذويهم بعد مماتهم لتكون من الأنساق الثقافية الوطنية ذات الباع والذراع في بلادنا، كما يتمنى المثقفون المبدعون في بلادنا الاستمتاع بالقراءة بتعدديتها التي أصبحت ظلاً مرادفاً للحياة الممتدة الجميلة في بيئاتنا الثقافية الندية!.
ولقد خطفتْ كثيرٌ من المكتبات الخاصة حزماً من الأضواء حين كانت في أحضان أصحابها من مثقفي بلادنا «وأعلامنا النبلاء» لارتفاع مستوى التفعيل الثقافي والتبادلية بجهود فردية، وبعد تحويلها إهداءات غابت كثير من تفاصيل ً المشهد الثقافي المرتبط بها، فأصبح الواردون ينهلون الماء من السواقي وليس المنابع، وأصبحت المجموعات الخاصة وسماً فارغاً دون أنيس إلا من باحث ملحاح، وكنا نرقبُ أن تكون تلك المكتبات كيانات ثقافية تقدم الفكر الثقافي المتعدد التكوين المتصل بمرجعياته في المجالات الأدبية والعلمية والاجتماعية!
وأمام هذا الركاز الوفير من المكتبات الخاصة وما زالت تتوالى، وما زالت كثير من البيوت التي انطفأت حياة مكتباتها لأفول القائم عليها من رواد الثقافة والفكر والتأليف ما زالت المكتبات المنزلية الضخمة عدداً وعُدّة تبحث عن احتضان ثقافي مجزٍ لاستظهار كنوزها والاحتفاء بمحتوياتها، وسبر غزارها وغرارها من خلال مشروع إستراتيجي متين تشدُّ أوتاده مقومات تلك المكتبات، يتصدر ذلك الحضور الثقافي لأصحابها من حيث الإسهام في صناعة الكتاب السعودي ثم اقتناؤها النادر الفاخر من التدوين من خلال أوعية قرائية مثالية، ونموذج المجموعات الخاصة مثال حاضر على ثقافة الأفراد وتفوق الفكر الوطني السعودي عبر العهود إلى عهدنا الزاهر الذي نأمل أن تتلاقح خلاله بدائع المثقفين، وتشهد امتناح الواردين، وإبداعات الأولين والآخرين، وتتقارب الأرواح والعقول والساحات والمساحات، ومما نراه جديراً بإستراتيجية الاستثمار الثقافي في المكتبات الخاصة المهداة للمكتبات الوطنية والعامة أن تكون قاعدة انطلاق لمراكز ثقافية تتسمى برواد الثقافة في بلادنا ممن كونوا تلك المكتبات ودفعوا بها للمكتبات الوطنية والعامة وفق الثراء والأولوية؛ وأن تخصص لها مواقع دائمة في بيئات الرواد وفي منائر السياحة والواحات العلمية والمواقع التراثية التي تنامت في بلادنا مع النهوض السياحي المذهل الذي صار وسماً في كل بقعة من بلادنا الجميلة، وكم هي أمنية فاخرة أن تحتضن المكتبات الخاصة الشوارع المشهورة في بلادنا التي تسمت بشاعر أو أديب ممن شهد له ومنه مثل شارع المتنبي الشهير في الملز في مدينة الرياض، ولعل المكتبات الخاصة تحظى بنظرة من الهيئات الملكية لتطوير المدن والمناطق وأن تتضمن إستراتيجياتها حظاً للمكتبات الخاصة في المواقع والدعم، وأن تتشكل لها فرق لإدارة الأنشطة الثقافية في تلك المراكز، وأن يتم احتفاء سنوي لإطلاق مركز ثقافي جديد فينتظم العقد الثقافي السعودي على مدى سنوات، وأن يعتمد تنظيم وطني للتطوع الثقافي وآلياته، وليتنا نصنع نموذجاً وطنياً للتطوع الثقافي دعماً لحراك الثقافة ونشراً للمنتج الثقافي الوطني ومنه المكتبات الخاصة، وجميل أن نشهد ثراء تلك المكتبات في المواسم والمناسبات الوطنية.
وعندما تنبت الثقافة من ذات الحقل وإليه، ويرويها نمير عقول أبنائها، عند ذاك تصبح الثقافة مرتاداً لبلابل الدوح, ومحضناً لكل ذي طرس..