بانريك كامبل - مجلة «ريدرز دايجست» الصادرة في شهر نوفمبر 1947
أنا مُستعدّ للبقاء ثلاث ساعات في غرفة الانتظار بعيادة طبيب الأسنان، لعلاج أربعة أسنان مُصابة بالتسوّس وضرس عقل مغروز بين عظم الفكّ وسِنّ آخر، على أن أبقى خمس عشرة دقيقة في صالة المطار بانتظار ركوب الطائرة.
ربّما تصنِّف شعوري هذا بأنه هلع لا سبيل إلى كبحه، أو انتقاد قاسٍ لوسيلة نقل أثبتتْ أنها الأسرع والأكثر أماناً وراحة في العالَم.
والحقيقة أني أجلس مرتاحاً عندما أكون في صالة الركّاب، أشاهد المسافرين عن كثب وهم واقفين بانتظام في الطوابير على بوّابات المغادرة إلى وجهات مثل (نيويورك) أو (اكابولكو) أو (برمودا)، مع شعوري بالأسى لأني لا أسافر مثلهم إلى مثل هذه الأماكن السياحية الجميلة، ومع ذلك فإن هذه الرغبة الجامحة للسفر تتبخّر حالما أصعد إلى حافلة المطار.
فأول شيء أفعله حين أكون على متن تلك الحافلة، هو التمعّن في ملامح رفاق السفر، وهل هم من النوع الذي يمكن أن يشعر المرء بالطمأنينة في الموت معهم؟ لكنهم دائماً، لسبب أو لآخر، يفشلون في الوصول إلى معاييري في الاطمئنان، فيبدأ الرعب يتسلّل إلى قلبي، فلا نصل إلى المطار إلا وقد فقدتُ رطلاً من وزني.
في المطار أسعى للتحدّث مع الطيّار أو أحد أفراد الطاقم، لأسألهم أسئلة مرتجلة لكنها تصبّ في صُلب الموضوع.
أود أن أسأل قائد الطائرة:
1- هل يقوم أفضل المهندسين الآن بفحص كلّ بوصة من جسم الطائرة؟
2- هل سبق أن تعرّضتَ أنت أو أحد أفراد عائلتك لغياب الوعي، أو فقدان الذاكرة، أو الانهيار العصبي؟
3- هل ستقود الطائرة بالسرعة القصوى؟
4- هل من الضروري أن نُحلّق على ارتفاع أعلى من خمسين قدماً فوق سطح الأرض؟
كما أود أن أسأل مهندس الطيران:
- هل أنت متأكد تماماً من فهم الإشارات والرموز التي يرسلها برج المراقبة، حتى لو أُرسلتْ بسرعة فائقة؟
وأخيراً أود أن أسأل المضيفة:
- لو حدث خطأ ما، فهل يمكنك التفضّل بإبلاغي قبل إبلاغ الآخرين عنه؟
وبعد طمأنة كلّ مخاوفي التي سألت عنها من قِبَل طاقم الطائرة، أدخل إلى الطائرة. وقبل الجلوس أحتار في اختيار المكان المناسب، هل أجلس في مقدّمة الطائرة وأتحمّل صدمة الارتطام المُحتمل، أو في الخلف والمخاطرة باحتمال القذف بعيداً في الفضاء عند انفصال ذيل الطائرة عن جسمها؟
ولذلك أختار الجلوس في وسط الطائرة، بحيث أتمكن من رؤية الأجنحة والتأكد من عمل المحركّات على أكمل وجه.
وبعد إقلاع الطائرة بخمس دقائق، أرفع أظافري المتشبّثة بالمقعد الجلدي، وأرخي حزام الأمان المشدود إلى صدري حتى يكاد يكتم أنفاسي، وأسترخي مُتمتّعاً بمنظر الغيوم الأخّاذ.
فجأة يُفتح باب قُمرة القيادة ويخرج قائد الطائرة بنفسه منها, ما هذا التهوّر؟ لقد جاء إلينا وترك مساعداً غريراً خلف المقود. أخذتُ أراقبه بخوف وهو يتجوّل في الممرّ ويتجاذب أطراف الحديث مبتسماً مع الركّاب. أنا أعرف ماذا يفعل، إنه يخبرهم أن كل شيء على ما يرام.
وعندما حان دوري واقترب الطيّار مني قال: «صباح الخير، هل أنت مستمتع بهذه الرحلة الجميلة»؟ فأجبته بأن هززت رأسي بصمت مطبق، فكلّ ما أريده أن يفعل هو أن يعود أدراجه ويُبعد ذلك الفتى عن التحكّم في الطائرة، وأخيراً تنفّستُ الصُّعداء عندما عاد من حيث أتى وأغلق باب القُمرة خلفه.
بعد ساعة تقريباً، واجهتُ لحظة عصيبة حين اقتربتْ المضيفة من مقعدي وهمست بشيّء لم أسمعه جيّداً.. خُيّل إلي أنها تقول: «إننا نهوي في البحر». فقفزتُ من المقعد قبل أن أدرك أنها كانت تسألني فيما إذا كنت أرغب في تناول كوب من الشاي.
وفجأة بدأت الطائرة تفقد ارتفاعها، ونظرتُ إلى الأسفل فرأيت الأرض مفروشة بخطوط سكك الحديد، ومنازل مبنيّة بالطوب الأحمر، ومداخن المصانع، وأعمدة الهاتف.. ووقع ما كنتُ أخشاه.
يبدو أن صمّام احتراق الوقود قد انفجر، ونحن الآن منحدرين للهبوط الاضطراري. غرزتُ أظافري مرة أخرى في المقعد الجلدي وأغمضت عينيّ.. وقع اصطدام وسمعت صوت صرير مكتوم، ويبدو أن الطائرة اصطدمت بشيء ما وتوقّفتْ. ساد الصمت والوجوم، نحن على قيد الحياة، ولكن أين نحن الآن؟
فتحتُ عينيّ فوجدت الطائرة مستقرّة خارج مبنى أحد المطارات، والعُمّال يدفعون بسُلّم نحو باب الطائرة.
غادرتُ الطائرة مُختالاً، ورأيت جمعاً كبيراً من المتفرّجين فاغريّ أفواههم وواقفين خلف السياج الحديدي. حسناً دعهُم يحدّقون، فهم ينظرون إلى أحد أشجع رجال الفضاء في العصر الحديث.
ماذا أقول، سوى أن الطائرة توفِّر أكثر وسائل السفر أماناً وسُرعة وراحة في العالَم.
** **
- أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
Twitter: @aalsebaiheen