يعتقد بعض الباحثين أن جيرار جينيت (1930 ـ 2018) بوضعه مسمى (الأجناس الجامعة أو جامع الأجناس) في كتابه (مدخل إلى النص الجامع) يكون قد حلّ الإشكالية الإجناسية وأغلق باب الأجناس الأدبية إلى الأبد. ومن يعد إلى هذا الكتاب فسيجد العكس أي أن جينيت فتح باب الإشكالية من جديد على أساس أن النظريات السابقة البنيوية والسيميائية والتناصية قد انحازت لصالح النص فلم تستطع أن تحل الإشكالية التي صارت تتجه بقضية الأجناس نحو اللا تجنيس وهو الخطر الذي يعقّد الإشكالية ويصيبها في الصميم. لذا وضع جينيت مدخله النظري محاولا طرق باب الأجناس مجدداً، فهل تمكن من تخطي المدخل أم أنه بقى واقفاً عنده وربما خارجه؟
لقد أضاف جينيت إلى النظرية السردية إضافات بنيوية مهمة، دشن خلالها مصطلحات ووضع مفاهيم ووطَّن تصورات على الصعيدين النظري والإجرائي حتى تخطى النصية البنيوية إلى ما بعدها، مهتما بدراسة سيميائية النص كعتبات عنوانية رئيسة وفرعية وأسماء المؤلفين والأغلفة الأمامية والخلفية واهداءات واستهلالات وكليشهات يضعها المؤلف والناشر ..الخ.
ولا يخفى أن ملامح الفكر النقدي عند جيرار جينيت كانت قد بدأت بكتابه (وجوه) 1959م ثم بكتبه (خطاب الحكاية/ نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير / طرائق تحليل السرد / عودة إلى خطاب الحكاية / من البنيوية إلى الشعرية) فضلا عن مجموعة مقالات نشرها تحت عنوان (أشكال) بين الأعوام 1966 م إلى 1972 م وتصب في باب الشعرية.
أما كتابه أو بالأحرى كتيبه (مدخل لجامع النص أو مدخل إلى النص الجامع) الذي نشره عام 1979 م فكان المنطلق نحو ردم نواقص النص بما بعد النص، وقد فهمه كثير من نقادنا على أنه وضع حلولاً لإشكالية التجنيس الأدبي. وما تعدد ترجمة هذا الكتاب والاختلاف فيها سوى دليل على صعوبة أسلوب جيرار جينيت وهو يضع تصورا لكل من النص والجنس، مخطّئاً تارة ومؤاخذاً ومناصراً تارة أخرى كما سنوضح لاحقا.
وصعوبة أسلوب جينيت يؤكده المترجمان د. عبد الرحمن أيوب ود. عبد العزيز شبيل، فالأول عدَّ أسلوبية الكتاب (محفوفة بالمخاطر بسبب ما فيها من الكثافة والتقنية الكتابية واللهجة الساخرة التي نادرا ما نفلت من منعرجاتها وأسرارها) أما عبد العزيز شبيل فوصف الكتاب بأنه يجمع الدقة العلمية بالعبارة المخاتلة مع تصرف المؤلف في تركيب الجمل حد الغموض والإفراط.. ونضيف للصعوبة بعداً آخر غير الترجمة وهو توزع فكر جينيت بين تأكيد أهمية الأجناس الأدبية وبين التركيز على النص وأهمية التداخل بين النصوص وحقيقة التعالق بين النصوص والأجناس، الذي معه تُنتفى قضية التجنيس أصلا.
ويبدو أن اهتمام جينيت الكبير بالتنظير للتناص والتداخل النصي قد جعله ملزماً بالوقوف عند هذه القضية مكتشفا أنه أمام إشكالية حتى أن أي إهمال لها أو عدم التطرق إليها هو بمثابة مأخذ نظري لا سيما إن المنظرين المجايلين له والسابقين أيضا كانوا قد وقفوا عندها وطرحوا رؤاهم حولها مثل باختين وتودوروف وغيرهما.
إن حقيقة موقف جيرار جينيت من قضية الأجناس وتاريخيتها وأسباب الحيرة النقدية التي وقع فيها يتطلب التحري عن الدلائل والمؤشرات التي حواها كتاب (مدخل لجامع النص) لعلنا نتمكن من الإجابة عن تساؤلات كثيرة تتعلق برؤية جينيت لماهية النص ومفهومه للجنس؟ ولماذا كانت تطبيقات جينيت أجناسية بينما تنظيراته نصية؟ وما سبب الحوارية التي ختم بها جينيت الكتاب وفيها رفع الراية البيضاء مكتفيا بالوقوف عند المدخل حيث دوامة النص وما بعد النص قائمة، متبنياً مفهوم (التعالي النص) ولماذا رفض المترجمان تعريب المفهوم بالنص المعماري أو معمار النص الذي هو أقرب لمعناه بالفرنسية؟ وما علاقة التعالي النصي بجامع النص أو الجنس الجامع؟
افترض جيرار جينيت أن هناك أجناسا أدبية كبرى، وتحتها يوجد ركام من الأشكال الصغرى. وقوله (ركام) يعني أن لا نوعية حدية فيها كما أنها مقصية لصغرها إقصاء يمتد لقرون. وهذا برأي جينيت لا يشمل الأجناس السردية لأن لها قانونها. أما أنواع الشعر وأشكاله فلا قانون لها يوضح (الضيق الحقيقي لحدودها والضيق المفترض لمادتها) ومثاله على ذلك (القصيدة الغنائية والسونيت والمرثاة) لكونها ليست محاكاة كلامية ولأنها محرَّفة عن القانون التصنيفي للسرد.
لكن نتساءل لماذا تجاهل جينيت تصنيف أرسطو للعنصر الغنائي جنساً أدبياً معروف الحد ومعلوم المحاكاة جنباً إلى جنب العنصرين الدرامي والملحمي؟
لا شك في أن جينيت رفض مسايرة النظرية الأرسطية في الأجناس محاولا إيجاد وجهة نظر تعديلية قوامها التقنين وليس التراكم. ولأن جينيت غير مقتنع بالتجنيس، سخر من موضوعة التصنيف، معبراً عنه بالرسم البياني الشديد الإغراء للنموذج الثلاثي الذي لا ينفك (يتحول) لكي يبقى حيا، وأن تاريخ نظرية الأجناس مطبوع كله بهذه الرسوم البيانية الباهرة التي تخبر عن نشوى واقع الحقل الأدبي المتباين، وتدعي اكتشاف نظام طبيعي وتبني تناظرا مزيفا مستنجدة بنوافذ مزيفة.
ولا شك أن ما يعنيه جينيت بـ(التحول) هو عدم ثبات أرضية التجنيس كما أن تعبيراته الساخرة بأوصاف (الباهرة/ نشوى/ مزيف/ مزيفة) هي الإشارة الأولى إلى أنه ينحاز إلى القول باللا تجنيس على حساب التصنيف. وعلى الرغم من محاولته إرجاء الإعلان عن هذا القول، مداريا عليه بشتى أساليب الالتفاف، فإن فكرة اللا تجنيس ستتضح أكثر فأكثر كلما تقدمنا داخل الكتاب، واجدين أن التجنيس عند جينيت فكرة تتهشم بسبب ما تتطلبه من صرامة الترتيب والتنظيم والاستيعاب، ولأن الأجناس الثلاثة الكبرى (نفسها في فوضى.. نشعر إذن بالحاجة إلى تصنيف أكثر صرامة ينظم حتى توزيع كل نوع) فهل وصل جينيت إلى نظام صارم في التصنيف فعلا وهو الذي استهزأ بالتجنيس أصلا؟!
لا نريد أن نستبق الكلام فنقول إن جينيت من دعاة اللا نظام في بناء الأجناس لأنه أول الأمر بذل جهداً وهو يحاول وضع تصنيف للسرد فوجده تارة صرفا ومختلطا وتارة ثانية هو كبير وصغير وتارة ثالثة هو رئيس وفرعي. أما لماذا استند جينيت وهو بصدد البحث عن نظام للأجناس إلى غوته فلأن الأخير قال باللا تجنيس، وهذا مؤشر أول على أن جينيت يحبذ ما كان متبنيا نقديا في القرن التاسع عشر حول قضية الأجناس محتجا به لتدعيم رأيه قائلا: (من الصعب جدا إيجاد نظام يمكن لنا وفقه أن نرتبها جنبا إلى جنب أو الواحد تلو الآخر) ومن ثم لا مفر من القول باللا تجنيس، لكن إعلان هذا القول يظل عند جينيت مرجأ ومتحفظا عليه كمأزق نظري لا يمكن الخروج منه لا بالترتيب ولا بالدوران.
أما المؤشر الثاني على ميل جينيت نحو فكرة اللا تجنيس فهو اعتقاده الجازم بمغلوطية فهم شعرية أفلاطون وأرسطو وأن الاحترام والوهم هما اللذان أديا إلى فهم تنظيم الأجناس وتقسيم الأنماط فهم خاطئ. وهذا ما (يزيد من خطورة العوائق النظرية لهذه النسبة المغلوطة أو لهذا الخلط بين الأنماط والأجناس) واستند جينيت أيضا إلى كارل فيتور الذي رأى أن الأجناس الثلاثة الكبرى تعبر عن ثلاثة مواقف جوهرية، فبنى عليها جينيت بدوره تمييزات لسانية بين الأجناس والأشكال والصيغ والأنماط، مندفعا نحو اعتبار (الصيغ مقولات نابعة من اللسانيات أو بتعبير أدق ما نسميه اليوم الذرائعية في الأشكال الطبيعية.. كون اللغة واستعمالها يبدو أنه كمعطى طبيعي بمقابل الصياغة الواعية والمقصودة للأشكال الجمالية) علما أن جينت تعامل مع الصيغ في كتابه (خطاب الحكاية) كمفهوم سردي انتقل من دلالته النحوية على تعدد أشكال الفعل المختلفة إلى دلالته السردية بوصفه هو الرؤية أو وجهة النظر.
** **
د. نادية هناوي - العراق