الثقافية - أحمد دسوقي:
حظيت المحاضرة التي أقامها كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية الثقافية في جامعة اليمامة يوم الثلاثاء 28 فبراير 2023 باهتمام وحضور نوعي مميز من الأكاديميين والمهتمين ومحبّي القصيبي، فقد تناول المحاضر الدكتور جزّاع بن فرحان الشمري تفاصيل السيرة الشعرية للقصيبي من خلال كتابه «سيرة شعرية»عام 1400هـ، موضحاً ارتباط شعر القصيبي بالعديد من المواقف التي يجد المتلقي صداها في نفسه وفيما حوله. على أن تجربته الأدبيّة عامة والسردية منها خاصة، تمثل منعطفاً من الكتابة التقليدية إلى الكتابة الحديثة، الباحثة عن المغايرة للنموذج السير ذاتي السعودي، والتجريب في سيرته الشعرية التي حرص فيها القصيبي على الترابط الزمني وتطور الشخصيّة؛ مما يؤكد وعيه التام بفن كتابة السّيرة الذاتيّة. وهذا المنعطف الذي سلكه القصيبي هو إدراك منه أن الكتابة هي انعكاس للذات والمجتمع، وهو يشهد على تعايش اتجاهين: اتجاه تقليدي أرسى دعائمه الرواد، الذين يرون في أنفسهم تجسيداً للأصالة، واتجاه تجديدي أسس دعائمه جيل جديد من الكتّاب السعوديين، كالقصيبي، نهل الكثير منهم من ثقافات غربية متنوعة من خلال الابتعاث. ثم تتالى ظهور النصوص السير الذاتية السعودية.
ويعتبر القصيبي من القلائل الذين اهتموا بكتابة سيرتهم الذاتية، فقد كتب سيرته الشعرية، وكتب كذلك سيرته التي ركز فيها على حياته الإدارية في كتابه (حياة في الإدارة) إضافة إلى ما حوته بعض مؤلفاته الأخرى مثل رواية (شقة الحرية) ثم (العصفورية) من علاقة بسيرته الذاتية. وقد أوضح المحاضر الفرق بين السيرة والتجربة عند القصيبي من خلال أعماله المتنوعة من شعر ورواية وقصة إضافة إلى ماكتبه في النقد والفكر.
ذكر المحاضر أن كتاب «سيرة شعرية» توزع في جزأين. الأول يحتوي على ثمانية عشر فصلاً ختمها بنماذج من قصائده. والجزء الثاني احتوى على ستة فصول مختوماً بنماذج من قصائده.بدأ القصيبي تدوين سيرته في عمر الأربعين .. كاشفاً فيها علاقته بالشعر منذ صغره، وعلاقته بالأدب والكتابة من روايات وقصص، وكيف دعمه وشجعه أستاذه، وقصة كتابة النص الأول والمحاولات الشعرية اللاحقة. وقصة الاسم المستعار للنشر في زاوية من زوايا الصفحة الأسبوعية في المصور، ثم تأثره بشعر الشعراء العرب على اختلافهم. وانتقاله إلى مصر والصدمة الحضارية في هذا الانتقال على المستوى الشخصي والمستوى الثقافي والمعرفي ومشاعر الغربة. واسترجاعه بذاكرته لمشاعر الحزن والضياع في طفولته منذ ولادته وظروف حزن مربيته جدته لأمه ودورها في التسلل إلى شعره، ثم نبوغه الشعري ومساجلاته مع صديقه عبدالرحمن رفيع في القاهرة، إذ كانت القاهرة أخصب فترات حياته الشعرية.
كما تناول المحاضر مفهوم التجربة الشعرية واتجاهاتها وعناصرها، ناقلاً ما عبر عنه القصيبي بأن الشاعر الحقيقي هو الذي يستطيع أن يحوّل تجربته الفردية إلى موقف إنساني يستمد منه الآخرون المعاني والعبر. على أن الآراء النقديّة التي طرحها القصيبي في سيرته الشعرية وحول تجاربه في الحياة لها صلة فعلية مع الواقع الذي يعيشه ويمارسه في هذه التجارب.
وتساءل المحاضر: ما الأثر أو التأثير الثقافي في قراءة نص سيرة القصيبي واتخذت من سيرة شعرية نموذجاً لذلك؟ وأجاب بأن القصيبي من جيل الأدباء السعوديين الذين استندوا في كتابتهم على روافد معرفية منفتحة على المنجز الغربي مغايرة لتلك الروافد التي استند عليها مَنْ سبقه من جيل الرواد في النماذج العربية للنصوص السير ذاتية، في غفلة منهم على أن مجمل تلك النماذج السير ذاتية العربية للكتّاب العرب، هي نصوص لجيل من الكتّاب نهل الثقافة الغربية وآدابها، وتأثر بتجارب كتّابها ونصوصهم السردية عامة، والسير ذاتية خاصة، مثل: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، ويحيى حقي.. وغيرهم. وقد استقى القصيبي في نصه تجربته الشعرية وأشرك القارئ والمتلقي هذه التجربة، ماجعل القارئ يستنطق دلالات هذا النص ويكتشف أفكاره ووعيه بالعوالم المحيطة به، وهذا مايثري الجوانب الثقافية والمعرفية في النص المكتوب أولاً ثم القارئ ثانياً ومساءلة هذا النص في إثراء الفعل الثقافي الذي يحتضنه. وما يقدمه من أحقية في تفاعل عناصره السياقية وتضافرها؛ بوصف القراءة ليست بمعزل عن الفعل والتأثير الثقافي. على أن هذا التأثير يوسع دائرة النص في تفاعله مع ذات الكاتب أولاً، ومن ثم تجربته الذاتية في تدوين إبداعه وما يمتلكه من معرفة ثقافية، تجعل منه ينفذ لكتابة نصه السير ذاتي ومافي ذاكرته من أحداث شكلت وعيه الثقافي، فضلاً عما يمتلكه القصيبي من مكتسبات ثقافية ساهمت في بناء النص.
وأضاف بأن القصيبي خير ممثل لتجسيد هذه السياقات الثقافية في نصه السير ذاتي «سيرة شعرية» وما فيها من مؤثرات في ذاته المنتجة للنص. وهو بلا شك نتاج بيئة علمية وثقافية نشأ فيها منذ طفولته وشرب من منابعها في تكوينه الأولي ونشأته التعليمية في المدارس أولاً ومن ثم قراءاته الثقافية والأدبية وخاصة الشعرية منها منذ صغر سنه في حفظ وقراءة أشعار شعراء العصر الحديث شوقي وحافظ والجواهري وأبو ريشة ونزار قباني والشابي وسعيد عقل وأحمد عبدالمعطي حجازي أو العصر القديم جرير والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وابن الرومي والعباس بن الأحنف وجميل بثينة والمتنبي وغيرهم من شعراء العربية. ولعل أوثق دليل على هذا هو تأثره في كل مرحلة من مراحل شعره بشاعر من هؤلاء الشعراء.
وشرح المحاضر بأن سيرة غازي القصيبي تتجلى بوصفها نصاً مفتوحاً على مختلف الخطابات، تتخللها كتابة إخبارية تستند على الحياة اليومية وكتابة ثقافية تستند على مرجعية كاتبها الأدبي والثقافي، أدى انفتاح النص إلى اهتمام القارئ في تحقيق أفقه.
واختتم محاضرته بالحديث عن المتلقي والفعل الإبداعي موضحاً أن النص السير ذاتي هو بؤرة ومركزية كتابة الذات، يبني فيها المبدع علاقة مع أناه وعوالمه في الكشف والبوح عن أفكاره واستحضار ماض واقع حقيقة، يعيد بناءه في تفاعل مع الذات وموضوعها؛ بغية الحصول على موضوع ذي قيمة. وأن كتابة نص السيرة الذاتية تستدعي استحضار الذاكرة الفردية وما للذات من منجزات ومواقف حياتية تنبع من ذاتية المبدع وما يمتلكه من مهارات ومعارف ونضج في توظيف هذه الأحداث وعرضها في أسلوب فني؛ لترقى إلى مستوى إبداعي بينه وبين القارئ.
وجاءت التعليقات من الحضور متفاعلة مع ثراء المحاضرة ودقتها، ابتدأتها الدكتورة خلود الأسمري (مؤلفة كتاب قصة المثل وهو من إصدارات الكرسي 2022م) وهي عضو هيئة تدريس في جامعة المجمعة في الأدب والنقد وأشارت إلى ما تحويه سيرة القصيبي من سمات أدبية تجعل النقاد في مواجهة مع نص أدبي يحمل تجربة إنسانية قريبة منهم يتفاعلون معها نظراً للقيمة الفنية والنقدية التي تحويها؛ مشيدة بالمحاضر واهتمامه العلمي الدقيق بالسيرة الذاتية وفتحه المجال لمساعدة الدارسين والمهتمين في هذا الحقل العلمي.
وأشارت الدكتورة رائدة العامري (من العراق) وهي مختصة بدراسة الأدب ونقده إلى ما حملته تلك السيرة من مواقف الشجاعة والعصامية التي حقق بها القصيبي الريادة في مجالات عديدة، موضحة أن السيرة الذاتية من النوع المقموع والمسكوت عنه في الأدب العربي ودراسته منهجياً وأكاديمياً تتيح فرصة للتعرف على تقنية الكتابة السيرية والذاكرة خاصة في أزمات وعقبات تتصل بالنظرة الاجتماعية التقليدية ما يجعل السيرة الذاتية عرضة للحذف والتعديل أو تجميل أو نسيان أحياناً وهو ما يتناسب مع أسلوبها المتأرجح بين الوثيقة والاعتراف. هذه المحاضرة مبادرة لدراسة سيرة القصيبي من خلال تجليات الذات ومعرفة الأنا والآخرة التي تشكل ذواتاً على اعتبار أن الذات لا تقابل الآخر بل الأنا هي التي تقابل الآخر.
وجاءت مداخلة الدكتور طنف العتيبي رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة المجمعة والمتخصص في دراسة الأدب الحديث ونقده، وتحدث عن قيام القصيبي في سيرته بالحديث عن ذاته وكأنه راوٍ مقارب من التاريخ بخلاف سيرة القصيبي في كتابه «حياة في الإدارة» فهو شاهد على الأحداث أكثر من كونه راوياً تاريخياً لها، فهو يصور الجانب الذي يقترب من المهنة التي عمل فيها ما يجعل ذاته تختفي أو تبتعد قليلاً أو كثيراً. ويتساءل عن ظروف بيئة العمل التي انتمى إليها القصيبي في حياته، فهل لها دور في جعل الصوت الذاتي خافتاً أو متراجعاً في بعض أحواله في سيرته الذاتية.
وتداخل الدكتور ناصر الحجيلان في التعليق عن سيرة القصيبي في الجوانب الإدارية واختلافها عن سيرته في الجوانب العاطفية، فقد لوحظ من كتابات القصيبي اختفاء أو تواري ضمائر المتكلم الفرد وزيادة استخدام صيغ المبني للمجهول وأنا الجماعة، وثمة حاجة علمية لدراسة لغة القصيبي من المختصين والتعرف على سماتها مع مقارنتها بلغته حينما يتغير الموضوع. وأضاف بأن سيرة القصيبي المواربة التي تخفيها رواياته وخاصة في «شقة الحرية» و»العصفوية» التي استخدم فيها ضمائر الغائب والمخاطب مع أنه هو المقصود فيها، ربما تحكي جوانب دقيقة وتفصيلية عن أعماقه النفسية والوجدانية من خلال شخوص خياليين، ولعلها تعبّر بشكل أدق عن ذاته.
وعلقت الدكتورة حصة المفرح (مؤلفة كتاب عتبات النص، وهو من إصدارات الكرسي 2022) أستاذ الأدب والنقد في جامعة الملك سعود بملاحظة منهجية تتعلق بالفرق بين السيرة الشعرية والسيرة الذاتية، فهل ينطبق مسمى السيرة الذاتية على سيرته الشعرية أم هي تجليات أو ملامح سيريّة تظهر فيها الذات؟ وهو سؤال عام ليس مقصوراً على سيرة القصيبي، عن إدخال ما يكتب عن الذات -كثر أو قلّ- ضمن جنس السيرة الذاتية.
وجاءت مداخلة الدكتورة أسماء العناقرة (من الأردن) وهي عضو هيئة التدريس للغة العربية وآدابها في الجامعة، وتحدثت عن الوعي الكتابي عند القصيبي وقدرته التأمليّة ومهارته في الإفصاح عن مكنونات الذات باستخدام الكتابة عنها على نحوٍ جوهري. وهو عملٌ بمثابة استرداد الإنسان لذاكرته واستعادة صورة ذاته في عمقٍ إنساني خاضع للأنساق الثقافية السائدة والمقاصد الجماعية التي تحكمه وتوجهه. إن تراكم المعارف داخل الوعي لدى القصيبي من خلال تجاربه وكتاباته المتنوعة ساعد على وجود خبرة معرفية نوعية مكّنت الوعي من ممارسة فاعليته في نقد الثقافة ومساءلتها في صورة خطاب معرفي. إن تطور هذا الخطاب الذي تحمله سيرته الشعرية دليل على تطور الوعي والفكر عند القصيبي.