التذكّرُ والانتظارُ شرطان يستقيمُ بهما معنى «الغياب» l’absence. هذا ما يبوح به كلام الفيلسوف هنري بر?سون (1859-1941) Henri Bergson عندما قال: «لاَ يوجَدُ غيابٌ إلاّ لدى كائن قادر على التذكُّر والانتظار».
لقد وجدتُ في مجموعة حمد العمّار الشّعريّة نزعةً ظاهرة إلى كتابة الغياب بمِدادِ الألم، بُكَاءً على أحِبَّةٍ «انتعلوا الرّيح» على حدِّ عبارة رامبو Rimbaud، وادَّثَّروا بالغياب، فكانت حياتُنا بعدهم تذكُّرا مثْقَلاً بالآهات الحَرَّى وانتظارًا يراوغُه الحًلْم:الحُلْم بعودةِ مَنْ حزَمَ حقائبَه في غفلةٍ منَّا.
لَوْحاتٌ عديدةٌ رَصَّعتْ هذه المجموعة الشّعريّة مثل لوحة غياب الحبيبة:
«هنا ولاَ غير.. قد ألقاكِ ثانيةً
فالشّمسُ عن حيِّنا المهجورِ آفلةٌ»
ولوحة غياب الأب:
«أبي أبي ويعود الصّوتُ منكسِرًا
هيهات يُجْدي أمام الموت ترديدي»
ولوحة غياب الصّديق:
«مضى وأنشودةُ الأيّام ظامئةٌ
تدعوه مهلاً بتصويتٍ وتلْويحِ»
ولوحات أخرى في قصائد عديدة مثل «الرَّاحلون الرَّاحلون» وما شاكلها. ولمَّا كان المجالُ يضيقُ عن الخوض في تفاصيلِ «جدليّة الغياب والحلم» في هذه المجموعة، فإنّني سأكتفي، في هذا التقديم، بالتوقّف عند لوحة غياب الأب عن يوم العيد: هي لوحةٌ سداها التذكُّر ولحمتُها الانتظار، تنهضُ على ثُلاَثيَّة من «التِّيمات»: الحُلْم/التعرُّف/الانكسار: الحُلْم باحتضان الأب القادم من وراء الغياب:
«حتى أخذتُكَ بالأحضان مبتهجًا
والعينُ تبكي بدمعٍ غيرِ معهودِ»
ثُمَّ التعرُّفُ عليه:
«هذا أبي لهفَ نفسي كيف أنكرُه؟
سُحقًا، أأحتاجُ فيه أيَّ تأكيد؟»
فالانكسار والهزيمة أمام الموت:
«أبي أبي ويعود الصّوتُ منكسِرًا
هيهات يُجْدي أمام الموت ترديدي»
ردَّتْني هذه القصيدةُ إلى قصيدةٍ للشاعر الفرنسيّ تيوفيل قوتييه Théophile Gautier (1811-1872) عنوانُها (الغياب) يحْلُمُ فيها بعودةِ حبيبته الرَّاحلة:
«عُودي، عودي حبيبتي!
مثلَ زهرةِ بمنأى عن الشَّمس،
تنغلقُ زهرةُ حياتي
بمنأى عن ابتسامتِكِ القانِية»
Reviens, reviens, ma bien-aimée !
Comme une fleur loin du soleil,
La fleur de ma vie est fermée
Loin de ton sourire vermeil.
ويقعُ الحافرُ على الحافر إذ يقولُ شاعرُنا:
«هذي ابتسامتُه والله صافيةٌ
ألذُّ في الرّوحِ من كلِّ الزّغاريدِ»
كِلاَ الشّاعريْن تحيا روحُه بابتسامةِ حبيبٍ فارقَ وولَّى، وكلاهما الْتاعَ بالفَقْد، وكم هو مُرٌّ مَرِير! فلاَ الأبُ ردَّ الجواب:
«فقمتُ أصرخُ مشدوهًا لأسمعَه
فقد أعودُ بردٍّ منه مشهودِ»
ولاَ اليمامةُ الشّاردة استجابتْ لنداء الرّوح لتعودَ إلى عُشِّ المحبَّة:
وقولي، أيَّتُها الرّوح ! لهذه الجميلة:
«تعرفين جيِّدًا أنّه يَعُدُّ الأيَّام،
أوه، يمامتي!
عودي على جناح السّرعة
إلى عُشِّ المحبَّة»
Et dis, mon âme, à cette belle :
«Tu sais bien qu’il compte les jours,
O ma colombe ! A tire d’aile
Retourne au nid de nos
Amours»
يقف الإنسان أمام حتميّة الفراق مذهولاً منكسِرًا فلاَ يملك إلاَّ الشكوى يَعْزِفُها على قيثارة الألم. بذلك يكتب قصيدةَ الغياب فيُضْنيه التذكُّرُ ويُبَرِّحُ به الانتظار، ولاَ يجدُ إلاَّ أرضَ الأحلام ينتظرُ شآبيبَها عساها تُحَوِّلُ أيَّامَه القاتمةَ الثِّقال إلى سُحُبٍ وخِصْبٍ ونماء:
«من الأمسِ أسْتَدْني خيالكِ علَّه
على عرصات الحُلْمِ يأتي مُسَلِّمَا
تشبّثْتُ بالأحلام حسْبي استماتةً
بأنْ أُطْبِقَ العينيْن قسْرًا لأحْلُمَا».
** **
أ.د. أحمد الطيب الودرني - تونس