د. شاهر النهاري
في فترة زمنية سادت فيها مشاعر الخوف والضيق، وتحريم الموسيقى، وحث الفنانين على الاعتزال، وتبرأ الكثير من أي أعمال فنية، ظهرت لنا أغنية «شبيه الريح» بأداء أكثر من رائع من فنان العرب، ذلك المبدع، الذي كان يواجه عظيم الصعوبات، وهو يحمل لواء بقاء الفن وسط أجواء من التشدد تكسر ظهر العود، وتكتم أنفاس الناي، وتقطع أوتار القانون.
كان ذلك اللحن الحزين القادم من ذاكرة ينابيع عظمة الطرب العربي بصيغة سعودية محدثة، يحكي بمعانيه عن وجود الخوف والاختباء، والأشباه، والرحيل مع الريح، والنداء من خلف الأسوار العالية، متقيا الصرير، وعذاب ضمير، وبدمج معاني حبيب أشبه بالريح يأتي من عين عشق العاصفة.
خرجت الأغنية بكل معانيها، وفنون ألحان كوبليهاتها المتبارية في تقديم الصور المتباينة، المتماسكة في زوايا القلوب.
سمعت الأغنية حينها، وكنت أشعر أن خلف ذلك الجهد الفريد حكاية، خصوصا وأني لم أكن أستمرئ بوح أكثر كاتبي الشعر من الأثرياء، ممن لا أجد بين أشعار بعضهم نقاط تواصل، ولا استمرارية، ولا تناغم، ولا شخصية ثابتة، ما يثير الشكوك حول من لا يثبتون أنفسهم بقناعات عن حقيقة صدور تلك الأشعار والمعاني عنهم، ودون أن يكون هنالك في المنتصف من ساعد وكتب ومن لحن.
ولترتفع وتيرة غرابة تلك الأغنية وجدنا اسم الملحن (صادق الشاعر) مبهما مريبا كما في تميز أغنيتي البرواز ومذهلة.
الملحن إما أن يظهر إنسان عين في العلن، أو أن يعبر الأفق بسرعة الريح، ولكن من عزف هذا اللحن القويم الأصيل الجديد، المختلف، عبر شبح، ودون أن يترك له خيال ظلال يظهر به في الحفلات، وبين أخبار مجتمعات الفن المشتتة حينها، فيضيع وجده بين القبائل، مهما تزاحمت الأسئلة:
«شبيه الريح وش باقي من الآلام والتجريح
وش باقي من الأحلام
وش باقي من الأوهام
غير إني ألاقي في هجيرك فيّ
وألاقي في ظلامك ضيّ
وأوقد شمعتي في الريح
شبيه الريح»
لوحات شعرية سريالية بديعة، رصدناها، وزاد من غموض شمعتها المقاومة للريح، غموض الروح.
ويبلغ اللحن درجات اقتناع وتجسم والتصاق محمد عبده مع هذه الأغنية لتظهر في معظم حفلاته، يقدمها بطرق تحكم متمايزة، تدل على أن حروفها وأوتارها متصلة بمشاعره الطاغية في كل ظهور، فلا يتكرر الأداء، كونها عواصف مشاعر تموج في يم فن متلاطم، وأنه يشعر بأنها ليست مجرد أغنية تمتنع على أصوات جمهور حفلاته بمحاولات مجاراة صوته، فهو الفريد الذي لا يترك القياد لا للفرقة الموسيقية، ولا لغناء الجمهور، ويندمج وينسجم ويذوب محبة وعاطفة، وشعورا بما تضفيه هذه الأغنية لصوته، من سلطنة منقطعة النظير، بتساؤل مريب، يبتسم بشرود من يدري، ليزيد الحيرة عند من يستمع ولا يدري، فمن هو يا ترى شبيه الريح؟
أذلك الشاعر، الذي لا يبدي ما يخفي، أم الملحن المجهول، الذي يبدي بوتره ما يخفي، وهو يجمع الكثير من عروق عذوبة اللحن العربي الأصيل، ويؤطر بها صور القصيدة، لبحارة يصارعون أمواج دوامات عاتية بالريح والأمطار؟
«شبيه الريح أنا ما أقدر أكدر صفوك العاصف
بقايا زيف أشواقي
سما أمطار أحداقي
شبيه الريح وش باقي؟»
وبمنتهى الحزن، والترقب، وصفعات رذاذ الأمواج، وتطلع الأمنيات يجدف مزمار هذا الفنان، ومع كل اشتداد للريح تتعاظم حساسية ومصداقية حبال المشاعر، حتى لا نعود ندرك هل الفنان أو الكلمات أو اللحن، هي ما يحرك أمواج اليقين الغائب، ويستدعي الحياة السائدة، بمدامع نكاد نتلمسها لوعة تهطل من أعين الشادي، وبصيص ضياء الغيب يلاحق الرذاذ بأسئلة لا تنام:
«أبي أعرف، متى تسكن رياحك
وأبي أعرف غرورك هو متى يطلق سراحك
وأبي أعرف متى تعصف ومتى تعطف متى تنزف جراحك
وأبي أعرف إذا باقي في بحرك موج أكسر فيه مجدافي
وأبي أعرف إذا باقي في همك هم، ما شالته أكتافي
وأبي أعرف إذا باقي في هالدنيا حزن ما مرني واستوطن أطرافي».
يا لله ما هذا الفنان البحر الحزين المصنوعة أمواجه من المخاوف والأسئلة، وكيف يحكي حقيقة كل ذلك الغموض بأنغام الشجن، وروح الرضا بكل عذاب، وبإصرار اليقين المتمسك بخيط الأمل وسط دوامات الريح والموج والمطر، وهو ممعن بالاختباء خلف عصاء المايسترو، ومتحديا الستائر:
«بقايا زيف أشواقي
سما أمطار أحداقي
شبيه الريح وش باقي»
وهنا ليس فقط الشاعر الثري، ولا الملحن الغائب مَن تهيج نفسيهما مع هوجة الأوتار، وهي تعزف الألم، ولا فقط مشاعر سلطان السلطنة العربية، والذي يود لو يستمر يحكي، وهو لا يحكي، ويصف ما كان يحدث لعصفة جوفه وهو متشبث بحبال شراع الريح، فلعل من يستمعون أن يدركوا الحقائق، التي لا تقال بذات المعاني والكلمات، ولكنها تترك لآذان وأفكار وعواطف المستمعين القياد، مهما ساد الرذاذ فوق وجودهم بالحيرة:
«سنيني يَمُّ، وقلبي المركب المتعب، وإنتِ الريح مجاديفي عذاب وهم، وزادِ الوجد والتبريح وصبري صبر بحارة، بغوا في اليم محارة، وكانوا للهلاك أقرب، لولا كثروا التسبيح!
والتسبيح هنا يحمل روحانية عميقة المعاني لمن يتشبث بأمل في النجاة، وصورة تبتَّل أكبر حتى من زهد شاعر وخشية ملحن ورجاء ترنيمة صوت، ورجوع للمولى عزت قدرته، بهدف حوز حب ومحارة، ورجاء بأن ينقذهم من ضياع طريق عسرة طالت، وجدوا فيها أنفسهم وسط دوامات متجبرة العنف في لعبة الْيَمَّ، وهم يصارعون الموت.
ثم لا تلبث أن تنقشع الغيوم، وتتضح بعض الصور، وتخرج دمعة صدق تحاول أن تحكي، وهي عاجزة، إلا عن طريق الإكثار من طرح الأسئلة، ونثر أحاجي الصفات البعيدة الفريدة عن حقيقة الملامح، وعن رسوخ شبيه الريح بكل الكذب:
حبيبي الأصدق الأكذب
تعبت أوصل شواطئ طبعك الأعذب
تعبت أجمع ألم كل الموادع في الموانئ وأحضن أطيافك
تعبت السهد في ليل الشوارع والثواني تنطر مصابك
تعبت الظلم وإجحافك!
قمة التأثر نشعر معها بالمطرب بحزنه متأملا ومتشبثا بآخر الرجاء:
بقايا زيف أشواقي
سما أمطار أحداقي
شبيه الريح وش باقي؟
محمد عبده من خلال الأغنية الحكاية البديعة، طار فوق عش المجانين، وعبر آفاق المؤدين، ووضع بصماته على عظمة الأوتار، ونثر دمعة فوق دواوين كاتبي الشعر الحر الملحمي.
وتنتهي الأغنية، ولم تنته حسراتها، بعد أن فتحت أبوابا أكثر للتساؤل والتأمل، ورسمت الخطوط بين كلمات متقاطعة، ونوتات عجيبة، كنا نسمعها في زمن الصمت والخجل، ولم نكن نعرف أن الشاعر هو نفسه شبيه الريح، وأن الملحن، لم يكن خيالا بالكامل، بعد سكون الريح، وسقوط الأقنعة، واكتشاف تطابق الملامح، مدركين ملحمة عاشها هذا اللحن المشلوح، في جميع أجزائها، التي كان أكثرها متدثرا بالخفاء، وتعجبنا كيف ظهرت وبانت بكل قوة في مناظير الرؤية، تحكي عن الشاعر مساعد بن عبد الرحمن، وتفتح لنا نحن المتذوقين أبوابا ندخل من أنسامها مثل الأرياح، لنحكي، عن حكاية تبقى، وزمان آن لنا أن نرصده وإن تعدى، ووقت حضر، لا يرضى زيادة أستار ومكياج وأقنعة، كونه نجما حاضرا يدعو الجميع ليغسلوا وجوههم بالصفاء، ويزيحوا الرتوش والتخفي، وبكل مشاعر الفخر، وإثبات الحقوق لملحن عجيب خرج من زاوية البرواز بعد سنوات مذهلة من بقائه وسط لمعتها شبيه للريح.