د.حسن مشهور
تعد الكتابة السيرية في واقعها حالة من التواصل بين المبدع من جانب والقارئ الهدف من جانب آخر، وهذا التواصل الثقافي - التعبيري- يكون في الغالب بحاجة لوسيط، وهو في حالتنا هذه يكون النص. إذ إن النص -الوسيط- بمشاهده المتنوعة وبجودة حبكته الكتابية يشكل عنصرًا مؤثرًا على وجدان المتلقي. ونستطيع أن نقول إن الاستجابات الإيجابية للنص - أي حالات الإعجاب، الرضى، القبول - تزود الكاتب بشكل عام بتغذية راجعة، يدرك من خلالها أنه قد نجح في تحقيق معادلة الإبداع الصعبة.
ولقد عبر عن ذلك الباحث اللساني رومان جاكبسون عندما أكد على أن أي اتصال تعبيري يتشكل في أساسه من ستة عناصر رئيسية، هي على التوالي: المرسل، المستقبل، السياق، الشيفرة، وقناة الاتصال، والرسالة. وأشار جاكبسون إلى أن كل عنصر من هذه العناصر الستة ينتج وظيفة مهيمنة حين تتجه الرسالة اللغوية إلى مراعاة جانبه، والتركيز عليه.
فعلى سبيل المثال؛ حين يتم التركيز على المرسل فإن الوظيفة الانفعالية (الوجدانية أو التعبيرية) تكون هي البارزة هنا. بحيث تتجه الرسالة للتعبير بشكل مباشر عن موقف المرسل مما يقول، بحيث تصطبغ رسالته اللغوية بلون من الانفعال الوجداني يتجلى في النطق، فيكون على شاكلة (تعجب، تحسر، تأوه ... إلخ).
في حين تبرز الوظيفة الإفهامية (الطلبية)، حين يتم التركيز على المستقبل عبر جملة من الصيغ الطلبية، (كالنهي، والنداء، والأمر)، والتي من خلالها يدرك المستقبل نوعية التعيين المناط به الاستجابة له. ويأتي السياق ليشكل الوظيفة المرجعية (الإحالة)، التي تمثل خلفية تجعل المستقبل قادراً على فهم الرسالة وإدراك دلالاتها المحددة ومن ثم تفسيرها على الوجه الصحيح الذي أعدت وفقه ولتبيانه.
أما الشيفرة، فحينما يكون الخطاب مركزًا عليها، فإن الوظيفة الشارحة تكون هي البارزة في هذه الحالة. حيث يعمد كل من المرسل والمستقبل لاستخدام النمط اللغوي ذاته ومن ثم يكون التخاطب قائمًا على التفاهم الثنائي المشترك. وتبقى حالة التواصل بين المرسل والمستقبل أثناء عملية الاتصال رهنًا بقناة الاتصال التي ينتج عنها الوظيفة الانتباهية ويتم من خلالها مراقبة عملية الإبلاغ، وضمان نجاحها.
أما في حالة التركيز على الرسالة اللغوية ذاتها، فإن الوظيفة الشعرية وهي ماتعنينا كأدباء ومثقفين، تتحقق في هذه الحالة، وتكون الرسالة في هذه الحالة هي موضع الدراسة والتحليل، أي إنها هي غاية نفسها.
ويرى جاكبسون، أن الرسالة بعيدًا عن غايتها هي في الغالب تتضمن وظيفة شعرية. كما أشار إلى أن درجة هيمنة هذه الوظيفة تختلف من رسالة إلى أخرى، تبعًا لعلاقاتها بغيرها من الوظائف اللغوية. ويؤكد «بليث»، على أن الوظيفة الشعرية في النص الأدبي لاتلغي الوظائف اللغوية الأخرى، بل عوضًا عن ذلك فهي تسعى فقط للهيمنة عليها. وفي حالة حدوث تغيير في ترتيب الوظائف النصية تبعًا لحدوث تغيير في نمط التلقي، فإنه قد ينتج عن ذلك إضفاء الشعرية على نص ما، أو ضياع شعريته.
وفي الخطاب السيري، تكون للوظيفة الشعرية حالة من الخصوصية والتميز. مردّ ذلك عائد لكون التشكيل اللغوي في العمل السيري يخدم جملة من الوظائف. من ذلك أنه هو المادة التي تتشكل وتتولد منها السرديات عمومًا ومن ضمنها السيرة المدونة، وعبر هذا التشكيل اللغوي - كذلك - يتم تقديم العناصر السيرية الأخرى، كالشخصيات؛ التي عايشها صاحب السيرة فيجعلها تظهر وهو يتحدث نيابة عنها، فيكشف عن أفكارها، وعن مشاعرها كذلك.
هذا إلى جانب أن هذه اللغة هي التي تصور الأحداث وتصف الأماكن والأشياء وتنقل الحركة، وتجسد كذلك سيرورة الزمن السردي. وهي التي تدمج أيضًا هذه العناصر في وحدة واحدة تبرز لنا الهدف والمغزى، أي أن هذه اللغة، هي من يتم عبرها تشكيل كافة العناصر المشكلة للسيرة ولولا هذه اللغة لما كان للعناصر البنائية للسيرة وجود يذكر. وهذا الأمر قد أكد عليه صلاح فضل، حين أشار إلى أن التفات التشكيل اللغوي لذاته لايحقق وحدة التشكيل في الرواية مثلًا، بل هو يجنح بها إلى غنائية الشعر إن لم يؤدِّ الوظائف السردية، التي أشرت إليها في مقالي هذا بعاليه.
فقد يكون التشكيل اللغوي هو الوسيط الذي يقوم بتثبيت مفردات الدلالة وبناء الهيكل الكلي لنص السيرة أو أي جنس سردي آخر، وتنظيم عمليات الرمز والتصوير، ولكن هذه اللغة بذاتها مهما بلغت من التبلور والكثافة، فإنها لاتستطيع بأي حال أن تحل محل عناصر السرد الأخرى. أي أن تصبح الكلمة المتوهجة هي منطلق الطاقة التصويرية ومناط الإبداع. فإذا انتزعت الكلمة في السرد دور البطولة من بقية العناصر واستقلت بشعريتها في شبكة العلاقات السردية فإن العمل السيري حينئذٍ يميل باتجاه الغنائية، ويصبح شعرًا بالمعنى المحدد للكلمة وليس عملًا سيريًّا قائمًا بذاته، ويحدث ذلك في الغالب في تلك النصوص التي لاتقوى على توظيف الخواص النوعية للسيرة، سواء منها الذاتية أو المروية.
ولنتأمل على سبيل المثال، رواية «الأيام» لأديبنا العربي الراحل طه حسين، فستجدنا نقف أمام جمله التعبيرية الأخاذة لدرجة أنها تأخذك بعيدًا عن النص. بعبارة أخرى؛ إنها تغزو ذائقتنا الأدبية لتجعل الفرد منا حبيسًا لطربيتها الإيقاعية على الأذن والفؤاد. الأمر الذي يجعل الفرد منّا كيانًا مغيبًا عن التفاعلية الانعكاسية للتأثير النصي على الذات، بحيث ينغلق فيها تذوقنا الفني على اللفظة المنتقاة بدقة من قبل المؤلف، جراء وقعها الطربي على الأذن، وللجملة التعبيرية وللعبارة في شاعريتها الأخاذة.
وهو ماسيأخذنا في غالب الوقت عن الحبكة السرية، لهذا العمل السيري ويجعلنا المتأملين دومًا لشاعرية العمل الفني، الأمر الذي يشكل معيقًا إدراكيًّا للسياق الحدثي التتابعي للنص السردي وأكثر من ذلك للمراحل المفصلية لهذا العمل السيري. وهو مايستدعي منا التوقف والعودة لواقعية النص المدون ومن ثم محاولة تذكر واستيعاب السيناريو الذي تمت مطالعته في الأجزاء التي غطيت من قبلنا آنفًا بالقراءة.
كما أن هناك تداعيًا سلبيًّا آخر للاهتمام بالتشكيل الشعري للجملة التعبيرية السيرية على حساب الاهتمام بالشكل التركيبي التعبيري للسيرة، وهو أن هذا الأمر يسهم بشكلٍ رئيس في إبطاء إيقاع الزمن السردي إلى حد بعيد، وهذا الأمر نلحظه أيضًا في العمل السيري «الأيام» لراحلنا طه حسين.