سهام القحطاني
«يقولون إن الكلام امتياز الرجال.. فلا تنطقي.. وأن الكتابة بحر عميق فلا تكتبي.. وإن الرجال هم الشعراء.. فكيف ستولد شاعرة في القبيلة؟» في البدء كانت الأنثى سعاد الصباح.
لفتت انتباهي تغريدة للمشاكس الأستاذ عبدالله وافيه ظاهرها سؤال وباطنها إشكالية ما زالت على قيد الحياة وهي: «هل الجميلات يكتبن الشعر؟».
وهي تغريدة بلا شك سحبت فكري إلى الشاعر «شارل بودلير» صاحب أشهر مقولة عن المرأة في العصر الحديث «كوني جميلة وأصمتي».
فكم من السيء أن تقود مقولة «لشاعر ماجن» مثل «شارل بودلير «عاش ما بين حضن أم مقهورة وأحضان بغايا، مصير قيمة المرأة ليحصرها في «مادية الصورة» وفي إلغاء فاضح لكينونتها أمام مرأى ومسمع من الجميع وهم يصفقون ويصفرون، حتى نسي الجميع أن «بودلير» أول شاعر فرنسي كتب القصيدة النثرية لتنحصر سيرته التاريخية داخل إطار مقولته «كوني جميلة وأصمتي»، لتُصبح هذه المقولة هي علامة شهرته، التي أطلقت رسميا» متلازمة الغباء والجمال».
هذه المتلازمة الموروثة من عصر الحرملك والجواري الحسان اللائي لم يكن لهن وظيفة سوى إرضاء الرجل.
ولا شك أن كل مقولة لا تخضع إلى مبدأ التعميم ليست إشكالية، بل الإشكالية في المقولات التي تخضع إلى مبدأ التعميم لتُصبح خاصية متلازمة لنماذجها.
لنتفق وفق مبدأ العدالة أن «الجمال» هو وصف عنصري تمييزي، لأنه يفترض مقابلاً مختلفاً عنه وهو «القبح»؛ فتصنيف النساء في جدولة الجمال والقبح هو تمييز وعنصرية، والأمر كذلك بالنسبة للرجل، فتصنيفهم وفق جدولة الوسامة والقبح هو تمييز وعنصرية.
ليس لأن مفهوم الجمال هو مفهوم نسبي وتحويله إلى مفهوم مُمَعير مضبوط بمسطرة قياس، هو مخالف لقيمة ثقافة الاختلاف والعدالة الإنسانية، وليس فقط لأن تحديد قيمة المرء وأهميته في الشكل هو تهميش لقيمة الفكر والفعل، بل إضافة إلى ذلك وهو المهم أنه «وصف لا يليق بالخالق» فالله خلق البشر في «أحسن تقويم» لتحقيق مبدأ العدالة الشكلي بين البشر كوحدة تقييمية متكافئة الحكم، وفي ذلك حكمة حتى يسيطر القياس على قيمة الفعل والقول والإنجاز فهذه المعايير هي على الاعتبار مسطرة قياس تتجاوز الشكلانية وتؤكد على الأثر.
إن متلازمة الجمال والغباء التي صاحبت المرأة وما تزال تُصاحبها، هي حاصل سعي الإنسان إلى تحقيق «الكمال»، وبما أن «اللغة» علامة فضح وكشف عن العيوب كان الصمت في المقابل هو الحامي لكمالية الجمال من أي عيب، وفي هذا المجال تبرز لنا أسطورة النحات» بجماليون» الشهيرة وقصته مع التمثال «جالاتيا».
والمغزى من هذه الأسطورة يُمكن لكل منّا أن يبتكر تأويله الخاص كما فعل كل من حاكاها من المفكرين.
لكن الإطار العام لهذه الأسطورة هو أن الجمال لا يكتمل إلا مع الصمت بل هو المكون الأول لتلك الكمالية؛ باعتبار أن اللغة قد تُصبح علامة تشويه ونقص لهذا الجمال.
ولكن لو تأملنا المساحة المظلمة لهذه الرؤية، قد نستنتج أن الرجل في اللاوعيه الموروث التاريخي مهما غُطي بمساحات خضراء ما زال يؤمن بأنه يتفوق على المرأة في الفكر والقول، وإن حدث غير ذلك فهو يدخل في باب الاستثناء والشاذ، وفكرة تحويل الاستثناء إلى عام والشاذ إلى طبيعي هو ما يخشاه الرجل -المقصود بالرجل هنا الصفة في مطلقها-، لذا لابد أن يحيط المرأة بقيد يجعل تفوقها القولي والفكري مصدر «عيب» يهدد جمالها، ومن جانب آخر هي شفرة تؤسس لشرطية، مقامها؛ أن الفكر والقول من خصائص المرأة غير الجميلة، وهذه الشرطية قد تمنع الكثير من النساء من القول والفكر لِتتجنب الوقوع في شبهة القبح.
إن متلازمة الجمال والغباء أضرت بالمرأة على مستوى سيرتها الفكرية عندما صورت الفكر والقول علامة تشويه وعيب يضر بجمال المرأة، ومن الغريب أن هذه المتلازمة كانت تسبقها متلازمة، هيمنت على المدونة الفقهية الكلاسيكية بأن «صوت المرأة عورة» ولعل «اللغة أو الكلام» هو القاسم المشترط بين المتلازمتين، وإن كانت المتلازمة الفقهية ما هي سوى اجتهاد لها ما لها وعليها ما عليها، وليست أصلا من أصول الدين.
إن القول الفاسد يضرّ بصاحبه وينتقص من هيبته سواء أكان صاحب القول امرأة أو رجلاً.
فكم من قول أفسد بهاء صاحبه وصاحبته، وكم من قول زاد بهاء صاحبه وصاحبتها، وفي هذه المسألة، الجميع يُقيّم على مسافة واحدة من قدم المساواة.
فالقول الحسن والفعل الحسن هما مصدرا جمال كل امرأة ورجل، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.