يعرف هواة القراءة جمال الاندماج في كتاب يتسق موضوعه بالتوازي مع حدث مستجد، أو يطرق في بحثه ما يربط الماضي بحاضر اللحظة الراهنة.
اخترت كتاباً تخفف فيه العملاق العقاد من أعبائه الفكرية وانطلق رشيق القلم على سجيته، يدون خواطره في رحلة وقف فيها عن قرب من المؤسس الملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه.
ادخرت هذا الكتاب ليوم التأسيس، فكلاهما مؤسس وصاحب مشروع إصلاحي، بيد أن الإمام محمد بن سعود -رحمه الله - هو باعث المشروع الإصلاحي الأول من أجل جمع قبائل العرب حاضرة وبادية، ولم أشتات السهول والهضاب، والأنجاد والأغوار في خريطة واحدة، وقد كان هذا خافياً على اليافعين ومن دونهم،حتى أعلن يوماً رسمياً باسم يوم التأسيس ومن أعلى سلطة في الدولة الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله.
ومن رزق دقة الملاحظة وسرعة البديهة أيقن أن في تعيين هذا اليوم انعكاساً واضحاً لشخصية سلمان بن عبدالعزيز وشمائله، فهو يوم الوفاء للإمام المؤسس الأول، ووقفة أمام سفر مجيد للتاريخ، واستلهام لثقافة عربية أصيلة بنكهة سعودية.
نعم الوفاء، والتاريخ، والثقافة، هي ما ألمعت إليه من سجايا سلمان بن عبدالعزيز وتجلّت النظرة الحكيمة في حث أطياف الشعب على استكناه هذا اليوم والتساؤل عن الإمام محمد بن سعود -رحمه الله -، عن بواكير النشأة الأولى وشمولية النظرة الثاقبة لاستيعاب أرض لم تسلم قيادها مجتمعة بعد دولة الخلافة الراشدة لإمام قط، حتى رفرفت تلك الخفقة لراية التوحيد في عارض نجد تعلن الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، تغرس فصل في غرة التاريخ، فصل تمايزت به خارطة السياسة وموازين القوى، فليس قبل 1727م كما هو بعده، وليست الجزيرة بعد الآن أرض مشاع لحروب الوكالة التي تديرها إمبراطوريات ذلك العصر.
كنت أستحضر هذه الخواطر وأنا أقرأ كتاب العقاد «مع عاهل الجزيرة العربية» وهو مقالات كتبت قبل وأثناء زيارة الملك عبدالعزيز التاريخية لمصر، حيث انتُدب مجموعة من وجهاء مصر، ومنهم العقاد كعضو في مجلس الشيوخ آنذاك لمرافقة عاهل الجزيرة وضيف مصر الكبير، وانطلق يخت المحروسة في العام 1946م من ميناء السويس إلى ميناء جدة، وعاد وفي معيته سيد الصحراء.
جمع أشتات مقالات العقاد ابن أخيه الأستاذ عامر العقاد من مجلات متفرقة - الرسالة والكتاب والمصور- حول خواطر العقاد في تلك الزيارة.
بدا العقاد صاحب القلم الرصين مشدوهاً بكامل المشهد البانورامي لتلك الرحلة، فسجل انطباع الوهلة الأولى للوقوف أمام عاهل الجزيرة : «وأول ما يدهشك من منظره قوة النفس والعقل والحس على السواء، وهو الآن يناهز السابعة والستين، ويحتفظ بأسنانه، كما يحتفظ بقوة عضلية لا تتوافر للكثيرين في سن العشرين أو الثلاثين».
ودار الحديث في ثنايا الكتاب على هيئة المسامرات الفكرية والأدبية والسياسية أيضاً فأبدى لهم وجهة نظره ورغبته في التئام الجامعة العربية التي كانت حديث أروقة السياسة آنذاك.
وجال بهم فارس الصحراء في أحاديث القنص والصيد يصف لهم صيد الحبارى أواخر الشتاء، إذ تجتمع في موضع واحد فتصيب الطلقة الواحدة العشرات منها، ثم عقب جلالته كما يسجل العقاد «وأنا لا أستحب صيدها إلا وهي في الهواء، لأن لذة الصيد في إصابة الهدف».
كان يؤذن لهم بالجلوس إلى عاهل الجزيرة على ظهر اليخت المتجه من ميناء جدة إلى السويس، أربع مرات، في الصباح وأخرى بعد الغداء ثم العصر ورابعة بعد العشاء، فكتب العقاد عن تواضع العظماء وعن تبسّط العاهل الكبير في الحديث معهم فزالت رهبة القائد وموحّد الجزيرة، فاستوحى الكتاب شيئاً من أنس تلك النفس التي اقترنت فيها العزة بالتواضع.
العقاد الذي فاجأه الأمير متعب بن عبدالعزيز - وسموه لم يبلغ السادسة عشرة من عمره- بنسخة قديمة من جريدة الحرم فيها قصيدة للعقاد وصورة من صوره أيام الشباب، كدت أنساها كما يقول، كان يحدثهم عن اسم «العقاد» ومعناه القديم أنه الذي يعقد الحرير، فابتدره سمو الأمير عبدالمحسن قائلاً: «ولكنه يعقد الفصول الآن»، والفصول عنوان كتاب آخر للعقاد وله حديث آخر.
** **
- عبدالرحمن موالف