يجلس على كرسي صغير جلبه معه، فسنواته السبعون لاتسمح له بالوقوف الطويل.
أخذ يتأمل وجوه الشباب والشابات الواقفين على جانب الجسر.
يُعرف هذا الجسر بجسر العشاق.
نظرات خجولة وأخرى جريئة بشكل عجيب، ضحكات وهمسات وأيادٍ متشابكة طوال الوقت.
اليوم هو يوم عيد الحب، لهذا كان عدد الموجودين كبيرًا.
قال في نفسه بسخريةٍ حزينة وهو يتأمل حالهم:
_ ما أكثر العشاق، وما أندر المحبين بحق.
جاء شاب يحمل دميةً كبيرة على هيئة دبٍّ بلونٍ أحمر زاهٍ، أعطاه لشابةٍ لايتجاوز عمرها الثامنة عشرة، أخذته بفرحٍ شديد، كأنما انتزع قلبه وقدَّمه لها.
عاد للسخرية من (عشاق آخر زمن)، كما يحلو له تسميتهم، وهو يبتسم نصف ابتسامة وباستهزاء متمتمًا بقوله:
_ كل هذه الفرحة من أجل دمية، كيف لو قال سأتقدم غدًا لخطبتك من والدك؟
لكن (عشم إبليس في الجنة)، وانفلتت منه ضحكةٌ صغيرةٌ سمعها شابٌ قريبٌ منه، فيما يبدو أنه ينتظر حبيبته المتأخرة.
أدار وجهه بعيدًا عن الشاب حتى لا يسأله عن سبب ضحكته الغريبة.
حضرت أخيرًا حبيبة العاشق المُنتظِر وفي يدها كيس صغير أحمر، وناولته لحبيبها، فيما دس يده في جيبه ليخرج منه سلسالًا ذهبيًّا على هيئة قلبٍ يخترقه سهم كيوبيد، قفزتْ فرحًا وتعانقا طويلًا مغمضي العينين.
طال عناقهما، وملّ الرجل المسن من مشاهدة هذه المسرحية المتكررة أمامه كل عام، فبدأ يرفع صوته بالسعال.
أخيرًا تنبها له، فتوقفا عن العناق، ثم أمسك بيدها ليتمشيا على الجسر ولعلهما يتخلصان من عين الرقباء المزعجين، حتى غابا عن عينه.
أتت فتاة عشرينية ترتدي فستانًا أحمر، كل مظهرها ينبي عن حالها.
وقفت بجواره، فقد أصبح المكان مزدحمًا بالعشاق عند الساعة الثانية عشرة ليلًا، لم يتمالك نفسه هذه المرة، فالتفت إليها بحديثه وهو يتساءل بحزنٍ وشفقة:
_ عن أي حبٍّ يتحدث هؤلاء في يوم الحب؟
وهل للحب يوم محدد؟
لا أرى سوى ممثلين بارعين، قلوبٍ من ورق، وقلوبٍ أخرى محطمة أو ستتحطم قريبًا، ووعودٍ كاذبةٍ، وأحلامٍ خائبةٍ ينسجها شخصٌ مزيفٌ لعاشقٍ صادقٍ.
قبل أربعين عامًا وقعتُ في حب زوجتي، التقيتها صدفةً على هذا الجسر حيث جاءت مع صديقتها، وأنا جئت مع صديقي، بعد ثلاثة أشهر كنت قد خطبتها وتزوجنا، وعشنا أسعد زوجين معًا حتى وفاتها قبل عشر سنوات.
لهذا أحضر هنا كل عام، أحمل معي باقةً حمراء لروح زوجتي الحبيبة الراحلة، وأمكث أتأمل العشاق الحاضرين في كل عام، وقلما أراهم معًا في العام التالي.
حبهم لحظيٌ كالمفرقعات التي تشتعل سريعًا وتتلاشى بشكلٍ أسرع، ثم لاشيء بعد ذلك.
نهض بعدما رأى ساعته تشير إلى الواحدة صباحًا، اتجه إلى الجسر وقذف بباقة الورد وهو يتمتم بكلماتٍ لم تسمعها الفتاة، وعيناه تذرفان الدموع.
أدار ظهره المنحني ومضى يستند على عصاه بانكسار.
** **
- عائشة عسيري (ألمعية)