أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: صحة التصور تنتج حسن السلوك، ولا تصور صحيحاً إلا بعلم صحيح، وأحسن السلوك خشية الله؛ فكل من كان بالله أعرف فهو لله أتقى؛ فالعلم الكوني الصحيح في الأنفس والآفاق يهدي إلى معرفة خالق الكون بصفات الكمال.. وقد ذكره أبومحمد ابن حزم عن جبلة النفس على نوازع متضادة بطريق سلوك الخلق تجاه الوحي والعقل.. فقال: ((ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق؛ فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلاً إلى فهم خطابه عز وجل، وإلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم، وتتخلص من ظلمة الجهل؛ فبها تكون معرفة الحق من الباطل.. قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (سورة الزمر 17-18).
قال أبو عبدالرحمن: المنطق صناعة تعليمية لا علاقة له بقوة التمييز؛ وإنما التمييز هبة من الله.. ثم إن الذي يربي النفس على استثمار المواهب هو التحقيق في نظرية المعرفة ومصادرها؛ وأما المنطق فلم يضعه (أرسطو) لعصمة الذهن من الخطإ بإطلاق؛ وإنما وضعه لعصمة الذهن من خطإ معين في مقدمات باطلة وضعها (السوفسطائيون).. وأما ما ذكره من ارتقاء درجة الفهم: فذلك صحيح بعد التفريق بين أنواع المعرفة ودرجاتها، فمعرفة الشيىء معرفة وجود ووصف بالكم والمقدار؛ لأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالحس.. ثم علم الوجود غير المكيف وغير المقدر يكون علم وجوب أو امتناع أو إمكان مشروط بوجود المقتضي وتخلف المانع؛ ثم إن للمعرفة درجات.
قال أبو عبدالرحمن: وجه الدلالة في قوله تعالى في سورة الزمر السابقة، أن اتباع الأحسن يكون مصادفة، ويكون عن علم صحيح صادر عن قوة تمييز (هداية كونية)، وهداية ربانية شرعية؛ وهذا هو المراد بدلالة ذكر الآية للهداية.. وقوة العقل تشمل ما مضى من ذكر قوة التمييز؛ لأن للعقل ملكات من الفهم، ودقة التمييز بالفروق والعلاقات، وملكة التصور والتخيل والتذكر والتأمل والتجربة.. إلخ.. وأما كراهية الحود عن الحق: فسببها أن العقل الإنساني المشترك هداية كونية من الله تزكي النفس عن العدول عن الحق؛ ومع هذا فلم يكل الله الإنسان إلى عقله؛ بل من عليه بتعليم الوحي؛ فالعقل خلق الله، والوحي شرع الله لهداية خلقه؛ وكل ضال لم يصدق مع عقله في البناء على البديهيات: فهو مصدود بحمية أو تمظهر أو عناد أو كسب خبيث.. ثم قال أبو محمد ابن حزم: ((ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم، وعلى اعتقاد ذلك علماً، وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلاً؛ وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية؛ فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك؛ وربما أهلك.. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (سورة ق/ 37).. أراد بذلك العقل، وأما المضغة المسماة قلباً فهي لكل أحد متذكر وغير متذكر، ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له.. قال تعالى شاهداً لما قلنا: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (سورة الحج/ 46)، وقال بعض السلف الصالح: «ترى الرجل لبيباً داهياً فطناً ولا عقل له»؛ فالعاقل من أطاع الله عز وجل.
قال أبو عبدالرحمن: كثيراً ما يرد ذكر القلب؛ وهو يعني انعقاده على الصحة والخير والجمال، وهذا لا يكون إلا بعلم صحيح مستنده العقل والشرع وشهادة الحواس.. والصواب من قول أبي محمد: ((ولكن لما لم ينتفع القلب.. إلخ)): أن يقول: (ولكن لما لم ينتفع القلب بهداية العقل: كان كمن لا قلب له؛ لأن القلب خلق ليكون مستقراً للحق والخير، ولأن الجوارح تصدر عن إرادته وعزيمته.. وجه الدلالة من الآية من سورة الحج: أن القلب ينفعل ويضمر ويعزم، وإنما يعقل الإنسان بعقله؛ فجعل القلب يعقل ههنا؛ لأنه مستقر تصورات العقل وأحكامه، ومستقر الهوى والإلف والعادة والخرافة؛ فطولب بالانفعال بالمعقول.. والمأثور في اللغة: رجل داه وده وداهية.. وكون الداهية قد يكون لا عقل له: تفسيره أن كل طاعة أمر الله بها هي مقتضى العقل الصحيح الذي خلقه سبحانه، والله أعلم بما يصلح عباده؛ فجعل شرعه المعصوم هداية للعقول التي خلقها سبحانه وتعالى؛ لأن هو العقل الاستجابة لموجبات العقل التي يحصلها اللبيب الداهية؛ فلما عطل موجب العقل صار غير عاقل على الرغم من دهائه، وبرهان ذلك أن العاقل هو من أطاع قائم على أن السعادة الدائمة دنياً وآخرة لا تكون إلا بطاعة الله ، وأن المترف في دنياه، التارك طاعة ربه: قد آثر العاجل الزائل على الآجل الدائم؛ فكان حكمه من لا عقل له.. وفي كتاب (العقل والعقلاء) لابن حبان كلام مليح في هذا المعنى.. ثم قال أبو محمد ابن حزم عن تلك المسألة: ((هذه كلمة جامعة كافية؛ لأن طاعة الله عز وجل هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل، وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم لا إله إلا الله هو؛ فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به أو حض عليه، ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه.. وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وافق في استجلاب حظه فيها: من علو صوت، أو عرض جاه، أو نمو مال، أو نيل لذة من طاعة أو معصية: فليس ذلك عقلاً؛ بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار وقائد إلى الهلاك في دار الخلود.. وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور.
قال أبوعبدالرحمن: الكيس في أمور الدنيا مطلب شرعي؛ لأن الله أذن لنا أن لا ننسى نصيبنا منها؛ ولأنه جعل الحس والفؤاد العاقل مسؤولاً؛ وأما عدم المبالاة التي أثبتها فهي نقيض ما أثبته من الكيس؛ وإذن فغير المبالي غير كيس.. وغير العقل: عند أبي محمد: يساوي (ليس كيساً)؛ فنفى رحمه الله ما أثبته، وهو سوء تعبير؛ والعالم مطلوب منه توصيل مراده بلا لبس ولا تناقض غير مقصود.. ومتاع الدنيا غرور ما دام صاداً عما أمر الله به، موقعاً فيما نهى الله عنه؛ فلا يشمل ذلك ما جعله الله متاعاً إلى حين من إعداد القوة، وعمارة الأرض، والانتفاع بما أباحه الله من متاع.. ثم قال أبو محمد: (( وقد علمنا أن تارك الحق، ومتبع الغرور : سخيف الاختيار، ضعيف العقل، فاسد التمييز؛ وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم: فهو يشهد: أن اختيار الشيىء القليل في عدده، الضعيف في منفعته، المشوب بالآلام والمكاره، الفاني بسرعة على الكثير في عدده، العظيم في منفعته، الخالص من الكدر والمضار، الخالد أبداً: حمق شديد، وعدم للعقل ألبتة.
قال أبوعبدالرحمن: هذا لا يشمل ما أوجبه الله أو أباحه من سعي في الدنيا؛ لأن ذلك اختيار لما أراده الله، والشرع جاء للدين وصلاح الدنيا.. ثم قال أبو محمد: ((ولو أن امرأً خير في دنياه بين سكناه مئة عام في قصر أنيق واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ونواوير وأزهار وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ومال عريض.. إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها، وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة، وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة، وفي أثنائها أهوال ومتالف، ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال؛ فيسكنها مئة عام؛ فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء يلقاه في طريقه نحوها: لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه، وفاسد (الفصيح بلا واو قبلها) العقل جداً، ظاهر الحمق، رديء الاختيار، مذموماً مدحوراً ملوماً.
قال أبوعبدالرحمن: مر بي في قراآتي مثل كهذا ضربه أبوحامد الغزالي؛ وذلك المثل لا يشمل من عمر دنياه بالواجب والمباح، وإنما هو على من آثر دنياه على آخرته؛ فلم يعمل لها، والله طلب من عباده العمل للآخرة والدنيا معاً بما أوجبه أو ندب إليه أو أباحه.. ثم قال أبو محمد: ((وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه؛ فكيف بمن اختار فانياً عن قريب على ما لا يتناهى أبداً.. اللهم إلا أن يكون شاكاً في منقلبه، متحيراً في مصيره؛ فتلك أسوأ؛ بل هي التي لا شوى لها (قال أبو عبدالرحمن: لا شوى لها: أي لا إصابة فيها؛ لأن من معاني «أشوى» أصاب.. هكذا بالمجاز العام، والأصل إصابة ما ليس بمقتل).. نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين.. وكلما قلنا فلم نقله جزافاً، بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهداً بصحته، وميزه العقل، عالماً بحقيقته، والحمد لله رب العالمين.. وإن الله عز وجل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة؛ فمؤمن وكافر.. فريق في الجنة وفريق في السعير.. ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار، وعبده المنتجب من جميع ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم الهاشمي المكي إلى جميع خلقه من الجن والإنس، فنسخ بملته جميع الملل، وختم به الرسل (عليهم الصلاة والسلام)، وخصه بهذه الكرامة، وسوده على جميع أنبيائه، واتخذه صفياً ونجياً وخليلاً ورسولاً؛ فلا نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا؛ وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار، ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود، وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا، وفي الكون فيها إلا العلم بما أمر به عز وجل (قال أبوعبدالرحمن: ومما أمر به سبحانه عمارة الدنيا بشرطه الشرعي)، وتعليمه أهل الجهل، والعمل بموجب ذلك، وأن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت غرور، وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس خطأ إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور، والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإحياء سنن الحق، وإماتة طوالع الجور.. وأن ما تميل إليه النفوس الخسيسة: من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل، وأصوات مستحسنة منقضية بهبوب الرياح، ومشام مستطرفة منحلة بعيد ساعات، ومذاوق مستعذبةً مستحيلة في أقرب مدة أقبح استحالة، وملابس معجبة متبدلة في أيسر زمان تبدلاً موحشاً: باطل.. وأن كل ما يشتغل به أهل فساد التمييزمن كسب المال المنتقل عما قريب: فضول إلا ما أقام القوت، وأمسك الرمق، وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء: كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدي أهل نوعه، وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل، وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من هدى الله به رجلاً واحداً فهو خير له من حمر النعم؛ وأخبر عليه السلام: أنّ من سن سنة خير في الإسلام كان له مثل أجر كل من عمل بها لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئاً، وغبط من تعلم الحكمة وعلمها؛ فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا، فوجدناها على وجوه كثيرة؛ فمن أوكدها وأحسنها مغبةً بيان الدين واعتقاده، والعمل به الذي ألزمناه إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه، والعبارات الواردة فيه؛ فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس؛ فأثم من قلدهم إثمين: إثم التقليد وإثم الخطإ، ونقصت أجور من اتبعهم مجتهداً من كفلين إلى كفل واحد، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -