وما هي إلا أيام قلائل ويحل علينا شهر كريم فضيل.. ينتظره العالم الإسلامي كل عام بشوق وترقب.. إنه شهر رمضان الكريم الذي أنزل فيه القرآن.. شهر الرحمة والغفران.. والعتق من النار..
ونحن هنا في وطن الخير والعطاء أنعم الله علينا بخيرات ونعم من فضل الله لا تعد ولا تحصى.. اللهم لك الحمد.
من هذا المنطلق وكما لا يخفاكم..
يشمر الناس في الشراء.. وبشراهة وبلا هوادة.. وفي الجانب الآخر يخرج التجار السلع الغذائية الرمضانية المكدسة لديهم من شهور أو سنين..!
ولا نستغرب أبدا عندما يستغل غالبيتهم مثل هذه المناسبة برفع أسعارهم التى كالنار الحارقة لمن لا يستطيع لذلك سبيلا، وقد لامس خطيب جامع الأميرة سلطانه بنت تركي السديري بالرياض الدكتور شبيب الحقباني على منبر الجمعة جانبا مهما تتطرق فيه لمبالغة التاجر في رفع الأسعار على شريحة كبرى لا تستطيع مجاراة المقتدر بما لذ وطاب من الأطعمة في الشهر الكريم وحتى في غيره من الشهور..!!
واستعرض الطرف الآخر ألا وهو المستهلك..!
الذي لا يستوعب فداحة عمله بهذا التجميع والكثافة من المواد الغذائية والتي بالرغم من ارتفاع أسعارها يشتري ويقدم مجالا للتاجر للاستمرار في هذا الغي الذي للأسف يعاني منه المواطن في رمضان وغيره من الشهور..!!
قال شيخنا: المستهلك في هذا الزمان بين نارين إن استهلك هلك بالاستهلاك، وإن أمسك هلك بالإمساك، مسكينٌ هذا المستهلك، أعانه الله على متاعب هذه الدنيا، ورد الله إخواننا التجار إلى الرشد والصواب، ولعلهم يدركون حكمة الله في قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (الأنعام: 165).
أيها المسلمون: إن من الابتلاء ظهور الغلاء وإن من الاختبار ارتفاع الأسعار، وايم الله، كلٌ يتضرر من غلاء الأسعار، ولكن الذين يصيبهم الشلل التام والعجزالكامل، وتتأزم أمورهم، وتقفر من الزاد دورهم، هم الفقراء والمساكين، والضعفاء والمحتاجون، فهم يقعون بين غلاء الأسعار، وشح الأخيار، لأن أهل البذل والعطاء، إذا غلت الأسعار قل بذلهم، وشح عطاؤهم، فتظهر في بيوت هؤلاء الأسر المشاكل الاجتماعية والضغوط النفسية والأزمات الاقتصادية، ويظهر في المجتمع الذي كان متماسكا، الشح والطمع والأثرة والأنانية وحب الذات، والتي أوصدت الشريعة الإسلامية كل الطرق الموصلة لهذه الظاهرة المشينة والبارقة المخيفة فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم فإن حقا على الله أن يقعده بعظم من النار» أخرجه أحمد.
أيها الناس: كثر في زماننا هذا التلاعب بالأسعار، والمبالغة الفادحة فيها، وإن هذا العمل ليؤدي إلى الجور والظلم والكسب المحرم والإضرار بالناس واستغلال حاجة المساكين وضرورة المضطرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29).
وقد نهت الشريعة عن تلقي الركبان خارج الأسواق، كما جاء في الحديث: «لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق» لئلا تكثر الوساطة بين المشتري وبين السلعة، فيعلوا ثمنها، ولم يعد يتورع بعض التجار في هذا الزمان، عن الحلف الكاذب، تنفيقا للسلع، لأن الحلف الكاذب قد يكون سببا في بيع السلع الكاسدة، أو بيع السلعة بأكثر من ثمنها تغريرا وتدليسا وكتما وكذبا على المشتري، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة»، ومن الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، المنفق سلعته بالحلف الكاذب، ألا وإن من التجار، من يتجر بالاحتكار وهو حبس السلع عند حاجة الناس إليها لتشح من الأسواق فيغلو ثمنها، يقول عليه الصلاة والسلام: «لا يحتكر إلا خاطئ» أخرجه مسلم.
والشريعة الإسلامية، شريعة سمحة، تراعي مصلحة الأمة عامة، وتقدمها على المصالح الخاصة، فأباحت البيع والشراء قال الله تعالى {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وأولت التجارة والتجار عناية كبيرة، فبينت لهم حدود التعامل وأحكام البيع والشراء، وأباحت لهم الربح الحلال، وجعلت طلب الربح الحلال والسعي في الأرض قرين الجهاد في سبيل الله، قال تعالى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، (المزمل: 20).
وفي المقابل حذرت التجار من التعسف والجور والظلم والشطط واستغلال حاجات الناس، حذرت أشد التحذير التجار أصحاب الجشع والطمع والأثرة والأنانية والكذب والغش والخداع ورفع الأسعار على الناس بدواعي وهمية وصنائع مفتعلة وأعذار جوفاء وأقوال خرقاء بلا وازع ولا رادع منسلخين من الأخوة الإسلامية ومبادئ الرحمة الإنسانية، فجاء في الحديث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: «يا معشر التجار، إنكم تبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق).
أيها الناس: وأما التاجر الرحيم الذي يأخذ أتعاب تجارته ولا يثقل كاهل أخيه المسلم فقد جاء في الحديث: «التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء» رواه الترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى» أخرجه البخاري. فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه سبحانه فيما تأتون وتذرون، وتراحموا فيما بينكم؛ يتحقق لكم الخير والفضل والزيادة، فالرحماء يرحمهم من في السماء.
ويجب علينا جميعا أيها الناس الاقتصاد في المعايش وعدم الإسراف والتبذير في نعم الله عز وجل، فالإسراف سبب للشراء وكثرة الشراء سبب في الغلاء، والإسراف سبب في حلول النقم وزوال النعم، قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف 31).
أيها المسلمون: إن الذي يطلع على أعراسنا ومناسباتنا وحتى في بيوتنا من الإسراف والتبذير وما يحدث في أسواقنا ومن نسائنا من شراء الكماليات والتهالك على المصنوعات والتوافه من النثريات، ليعلم أن الذي أطمع التجار الجشعين فينا هو رخص الريال في أيدينا فتبذير الأموال محرمٌ، والعبد مسؤولٌ عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه.
وعليكم ـ عباد الله ـ بالقناعة، سلو الله القناعة في الأرزاق والأقوات كما كان يفعل نبيكم في دعائه بقوله: «اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه».
ألا وإن من أسباب القناعة أن ينظر العبد لمن هو أسفل منه ولا ينظر إلى من هو فوقه، قال عليه الصلاة والسلام «فهو أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه..
انتهت رسالة منبر يوم جمعة مباركة.
رسالة واضحة وجلية لاغبار عليها:
للتاجر والمستهلك كلاهما مرتبطان ببعض وعلينا ومع اقبال الشهر الكريم، نتذكر ونتذكر من هم حولنا وحوالينا من المحتاجين لمواد غذائية تروي بعضا من سد الرمق وعلى التاجر المساهمة في هذا الجانب.. وكل عام وأنتم بخير.
** **
Alsheikhabdullah@yahoo.com