د.فوزية أبو خالد
مكتبة جامعة بورتلاند الحكومية
Barand price Millar
مكتبة باراند بريس ميلر
لا تعتبر مكتبة جامعة بورتلاند الحكومية من المكتبات العتيقة بالمقارنة لكثير من مكتبات الجامعات في أمريكا وحول العالم فلم تُبْنَ إلا بعد منتصف القرن الماضي بقرابة عقدين وذلك تحديداً عام 1968م مع أن اللبنات الأولى للجامعة وضعت عام 1946. وأيضاً لا تعتبر مكتبة جامعة بورتلاند في سجلي الشخصي من المكتبات التي بدأتُ فيها مشواري العلمي ولا من المكتبات التي تأسست داخلها أيٌّ من بدايات عشقي المرضي لاندلاعات الكتب ومعابدها المتجسدة في وجداني المعرفي على هيئة معمار رمزي للوطن في الغربة. بل إن علاقتي الجادة بمكتبة باراند ميلر لم تبدأ حين كنتُ طالبة جامعية بالشمال الأمريكي الغربي، فقد كنتُ مغموسة في مكتبة ويلزيك لكلية لويس اندكلارك الجامعية، فلم أحتج زيارة مكتبة جامعة بورتلاند الحكومية إلا لماماً عندما درستُ فيها مقرراً عن كتاب «الموت والاحتضار».
«Death and Dying»
وكانت مؤلفة الكتاب شخصياً إليزابيث كوبلير رووز
Elisabeth Kubler Ross
هي من تقوم بتقديم ذلك المقرر بنفس عنوان الكتاب المقشعر الذي كان تأسيساً مرجعياً في موضوعه آنذاك، وكان لجدة الموضوع يتطلب منها أن تتطلب منا الكثير من القراءات الاستكشافية المحيدة عادة من حقل الدراسات الإنسانية.
ولم يدر بخلدي وقتها وأنا أخرج من مكتبة ميلر كضيفة خفيفة بأنني سأعود إليها بعد مغادرتي لبورتلاند كطالبة جامعية بأكثر من عشرين عاماً كأستاذ زائر ربيع وصيف 2009م، فأغطس في كتبها بحثاً عن مراجع للمقرر الذي كنتُ أقوم بتدريسه في جامعة بورتلاند الحكومية بعنوان «صورة المرأة العربية المسلمة في الإعلام والأفلام» وفي بحث «نماذجَ من الإنتاج الأدبي المترجم للغة الإنجليزية للكاتبة العربية شاعرة وأديبة». لقد وجدتُ في وجودي الجديد بمكتبة جامعة بورتلاند الحكومية أن المكتبة قد حظيت بتوسعة ضاعفت حجمها من المعمار ومن الكتب. وقد كان من حسن حظي قرب موقعها على ناصية «بُلك البارك الجنوبي» من الحرم الجامعي (الذي يمثل قلب وسط البلد لمدينة بورتلاند) ليس فقط من مكتبي ببناية سميث بقسم علم الاجتماع هناك بل ومن بيتي في «عماير الجوي لوف» التي كانت مسكناً ملائماً لأعضاء هيئة التدريس والطلاب الذين لا يسكنون داخل السكن الجامعي مثل «الأونديين» وغيره من مساحات سكن الطلاب بالجامعة أو في محيطها القريب.
في تلك المكتبة لم أبدأ فقط مشواراً معرفياً مدهشاً (لم يلفتني من قبل) في غنى مكتبة ميلر بالكتب الورقية والبصرية والسمعية بما يجاوز مليون كتاب تتوزع طوابقها الخمسة، بل نهلت من كتبها حتى الثمالة في إعادة قراءة نظرية الاستشراق (ولكن هذه المرة ليس في كتب الأدب الإنجليزي القديم وفي كتب علم الاجتماع عنه). وكان ذلك تحديداً في مجال الصورة والأفلام والكتابة التحليلية عنهما منذ نشأة السينما وإنتاج سينما هوليود إلى أحدث أفلام الكرتون وكان آخرها حينها أفلام مثل «بوكهانتس» وفيلم «علي بابا» المعروف بـ»اللا- ديين» الملغم بصور استشراقية غاية في العنصرية وفي تصوير المرأة العربية والمسلمة في «صورة الحريم» المستمد من المخيال الاستعماري في الفن التشكيلي وفي أشكال أخرى من الإنتاج المرئي والمقروء بما قامت بإعادة إنتاجه شركة والت ديزني بشكل تكريسي لتلك الأخيلية النمطية والأقسى أنها جمهورها الأعظم المستهدف كان من الأطفال واليافعين. وقد انتخبتُ من كتابات إدوارد سعيد المعمقة عن الصورة والثقافة وكتابات جاك شاهين عن الثقافة والسينما معيناً مرجعياً لي وللطلاب، مما كتبتُ مقالات عنهما في حينه بهذه الجريدة.
لم تتوقف علاقتي المستعادة بأثر رجعي مع مكتبة بورتلاند الحكومية على البحث في أضابير الكتب والقراءة الصامتة في خلواتها لساعات ولكنها أزهرت علاقات جانبية جميلة مع مجتمع المكتبة، فالمكتبات مثل حالات المصانع المنتجة ومثل منتجعات البحيرات ومثل حقائق العمران الكبرى التي لا يكتب لها الاستمرار والازدهار لا بقدر استطاعتها على خلق مجتمعاتها وخلق حالة تفاعل بينها وبين تلك المجتمعات. فنمت صداقات عابرة ولكن مفعمة بالحياة بيني وبين مريدي المكتبة وسدنتها من الطلاب والعاملين هناك، فكنتُ أحضر القراءة الأسبوعية المعتادة بها للكتب المستجدة على المكتبة في تلك السنة.
ومن حسن طالعي أن برفيسور عزيزة النعيم زميلتي بقسم الدراسات الاجتماعية قد قدمت لبورتلاند صيفاً حيث كان يدرس أبناؤها بدر وفيصل ويارا فتشاركنا صيام أيامٍ من شهر رمضان كما تشاركنا نعمة الإفطار على المطازيز والسليق ونعمة الاعتكاف في المكتبة بعضاً من ساحبات نهارات الصيف الطويلة. ولم أنسَ وأنا أحزم حقائب العودة للوطن لاستئناف عملي الأكاديمي بجامعة الملك سعود مع تباشير الخريف الفاتن أن أترك كرتوناً من الكتب لدى العزيزة د. عزيزة النعيم بما أنني غادرتُ قبلها لتحمله مشكورة إلى مكتبة ميلر لأتفاجأ عند عودتها بخطاب امتنان حملته لي من المكتبة يشكرونني فيه على اتخاذ المكتبة وطناً لغربتي بضعة أشهر وعلى هدية مجموعة الكُتب باللغتين العربية والإنجليزية التي تركتها عرفاناً لتلك المكتبة وكنوع من الأثر.
**********
مكتبة بول
لا أستطيع العبور بأرض بورتلاند من ولاية أوريجن دون المعراج لسموات مكتبة بول بحي ما كان يسمى في صباي وأنا طالبة جامعية بالبرن سايد (الجانب المحروق) وصار على الجزء الشمالي منه ما يسمى بالبرل ديستركت (منطقة اللؤللؤ) عندما قدمتُ أستاذاً زائراً. فمكتبة بول بأركان معمارها المنحوتة من مرمر الكتب على هيئة عواميد من الكتب وكأنها إنارات لعتمة ذلك الحي في الشتاء ومنارات للقاصدين بورتلاند في الربيع، بطوابقها الأربعة أو الخمسة بما فيها طابق خاص بكتب أدب الطفل عبر العالم وقاعات قراءة مخصصة لحضور الأطفال المدرسي أو الصيفي الخلاق الصاخب، وبما فيها القبو المخصص لمحاضرات دورية عن مختلف الكتب من الأمسيات الشعرية إلى العروض التشكيلية والموسيقية والقراءات المصاحبة لها إلى الكتب الفكرية خاصة تلك ذات الطبيعة الجدلية الحوارية أو السجالية، ليست مجرد مخزن أو دكان كتب تجاري بل عوالم متعددة من متعة العقل والوجدان المتجددة على مدار العام بل على مدار الأربعين عاماً التي ربطت بين ترحالي لجهات الأرض المختلفة وبين بوصلة للكتب يسمونها مكتبة بول.
وأسميها علم على رأسه نار أو مهب الهوى وقبلته Paul bookstore
**********
المكتبة الوطنية بفينا النمسا
هذه المكتبة كانت مفاجأة عام 2006 التي لا تنسى وإن كانت قد جاءتني من حيث لا أحتسب على طبق من فضة من خلال تلبيتي لدعوة العزيزة د. مي بنت العلامة حمد الجاسر وقد كانت تدير البرنامج الثقافي لجمعية الدبلوماسية العربية بفينا عاصمة النمسا في رفقتها الفعالة الواعية لزوجها د. سليمان الحربش الذي كان ممثلاً للمملكة عبر منظمة الأوبك. فلم يكن في برنامجي للحديث عن المرأة العربية من خلال مشاركتي في بحث وكتابة تقرير المرأة العربية لمنظمة العمل الإقليمي الإنمائي للأمم المتحدة القيام بزيارة تلك المكتبة والوقوف متقطعة الأنفاس أمام كنزها المعرفي المحيطي الخاص بالموروث الثقافي العربي لقرون في أقل من لحظات لم تزد على ساعتين من الزمان. ومع أنه كان بودي العودة إلى المقال الذي كتبته في حينه عن تفاصيل مشاهداتي المبهرة لمحتويات تلك المكتبة في جزئها الخاص بالمنتج الأدبي والعلمي المكتوب باللغة العربية لتواريخ مبكرة من عمر انبثاقات الحضارة العربية الإسلامية لاستعادة ضيائها على وجه الدقة مما لربما يكون قد خبى بعد مرور قرابة العقدين على تلك اللحظة المعرفية النادرة الشاهقة بين جدران مكتبة النمسا الوطنية. غير أن عدم توفر نسخة من ذلك المقال في متناول يدي جعلني أكتشف أن نور المعرفة وإن ابتعد به الوقت فإن الذاكرة لا تستطيع التفريط بجمره الوهاج وإن باعدت بيننا وبينه السنوات. فتمر أمام بصري وكأنها للحظة تلك المخطوطات والكتب العتيقة والتي من فرط ما رققه الوقت من أوراقها عمدت المكتبة على تحريم لمسها إلا على أولئك الرهبان الذين رهنوا حياتهم لحراسة قداسة الزمن في علاقته بعمر الحبر والورق، فلا يقربون تلك الكتب إلا بقفزات معالجة كيميائياً علاجاً يجنب رقة الأوراق المعتقة وسواد الحروف تجريح بصمات الأكف العارية.
وبما أن مكتبة النمسا الوطنية تستضيف أقدم المخطوطات المعرفية الشرقية بعدة لغات وأهمها العربية والتركية والفارسية مما لا يزال من لغات العالم الحية، فإن من غير المستغرب أن عدداً معتبراً من نفائسها يعود للقرن العاشر ويمتد إلى القرن العشرين، وإن تعددت روايات وصول نفائس الكتب والمخطوطات لهذه المكتبة ومنها الإهداءات ومنها النهب المعرفي المنظم الذي كانت تشرعنه طبيعة علاقات القوى بين الغرب والشرق بمدها وجزرها، وبظلمات ونور تلك المرحلة التاريخية الممتدة على مدى عشرة قرون.
ومن تلك المخطوطات العربية والإسلامية إن لم تخنِّ فراسة الكاميرا وقيافة الذاكرة..
نسخة من القرآن الكريم ترجع إلى القرن السادس عشر، و»كتاب ربما يعود للقرن السادس عشر أيضاً بعنوان على ما أذكر «صور الأقاليم»، وهناك ما يعود لأبعد من ذلك التاريخ ككتاب أبو منصور موفق ابن علي الهروي باللغة الفارسية مرصع بأحرف عربية ونمنمات من فن الزخرفة الإسلامية، وكتاب في الطب بعنوان الترياق، ومخطوطات مقامات الحريري العائدة للقرن الحادي عشر، وكتاب الأول في القانون لأبو علي الحسين بن سينا الأصفهاني عدا عن كتب في الفلك والجغرافيا والأدب ومنها قصص مأخوذة عن القرآن الكريم مخلوطة بالخيال كقصة زليخة ويوسف، وهناك بعض الكتب الأخرى اللافتة التي لم تعد تحضرني عناوينها ولكنها تخمرت في قاع الذاكرة في وصفها الدقيق لمستشفيات «مورستانات» ودور العلم والمساجد والحمامات لتلك الحقب الزاهية البعيدة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
على أن مكتبة النمسا بالذات لازال تهمس لي بوعد قطعته على نفسي بالعودة إليها فتلك الزيارة الخاطفة نهبت الروح ولم تروِها.