قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (185) سورة آل عمران
حَكَمَ الله بالموت على كل ذي روح من مخلوقاته، وساوى فيه بين الملك والمملوك، والغني والفقير، والشريف والضعيف، والعاصي والمطيع من سكان أرضه وسماواته. والموت أجله محدد، جرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، وكتبته الملائكة الكرام، والمرء في بطن أمه كُتِبَ أجله، فلا يتأخر، ولا يتقدم. فلقد جعل الله تعالى هذه الدنيا دار فناء وزوال، لا تصفو لأحد، ولا تدوم على حال، ولا تبقى لأحد، كل حي فيها يموت، وكل مخلوق فيها يفنى، وهي دار ابتلاء وامتحان، يُمْتَحنُ فيها الإنسان بالمصائب والأقدار المؤلمة، ومن أعظم المصائب التي يُصاب بها الإنسان مصيبة الموت وفقد الأحبة.
وإنّي في يوم الأحد 14-07-1444هـ ابُتليت كما ابتلي غيري بفقد الشيخ العزيز على قلبي سعد بن عبد الرحمن الدريهم، الذي أدينا عليه صلاة الميّت في مسجد الشيخ ابن باز -رحمه الله- في محافظة الدلم بعد صلاة العصر. ومما لفت نظري كثرة جموع المصلين الذين حضروا للصلاة عليه وتعزية أهله الذين أتوا من كل حدب وصوب في منظر لم أره من قبل حتى إنّ صفوفهم قربت إلى باب المسجد. وكان -رحمه الله- قد عانى من مرض لم يدم معه طويلاً.
لقد رأيته كما يراه أيضًا غيري من محبيه -رحمه الله- سمحًا في تعامله مع الناس، ومستقيمًا على دينه ومتواضعًا ومحبًّا للآخرين، ونقي السريرة، كما أنني عرفته بارًّا بوالدته ملازمًا لها وقريبًا منها؛ لأنه فقد والده في بداية حياته، وواصلاً لرحمه وأقاربه، ومشاركًا لهم في أفراحهم وأتراحهم، وقد عُرِفَ عنه الجدية والحرص على التربية الحسنة. وابتدأ تعليمه في مدرسة ابن عباس الابتدائية في الدلم، وبعدها التحق بمعهد المعلمين الابتدائي في الدلم أيضًا، وتخرج من المعهد عام 1381هـ، ويعد من أوائل من مارس التدريس والعمل التربوي من أفراد الأسرة الكريمة، وبدأت حياته العملية في مدرسة الهياثم الابتدائية، ثم في مدرسة زميقة الابتدائية، ثم في مدرسة ابن عباس الابتدائية، وغيرها من مدارس الخرج والدلم، ثم أحيل للتقاعد وكان محبوبًا يألفه طلابه ويحبونه لحبه وعطفه عليهم ومعاملته لهم أثناء التدريس بلين ولطف، وحرصه على نصحهم وإرشادهم، ولهذا لا يُستغرب إن بادلوه بحب واحترام وتقدير.
ومن الأعمال التي تعد من حسناته -رحمه الله- إمامته لمسجد (الفرخه) أحد المساجد العريقة في مدينة الدلم مدةً استمرت لأكثر من أربعين عامًا بداية من عام 1398هـ بعد أن كان الشيخ صالح بن عبد الرحمن الصرامي -أطال الله عمره ومتّعه بالصحة والعافية- إمامًا له.
وكان -رحمه الله- محافظًا على تلاوة القرآن في المسجد وبخاصة في شهر رمضان المبارك، ولعلّ من علامات القبول للمسلم بعد موته أن يكون قد قضى حياته في طاعة الله وحب رسوله، بعيدًا عن ارتكاب الآثام، والمداومة على الأعمال الصالحة واجتناب ما نهى الله عنه، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعجب من الشاب ليست له صبوة»، أي: ليس له ميل إلى الهوى والمعصية؛ لحسن اعتياده للخير، وقوة عزيمته في البعد عن الشر في حال الشباب الذي هو مظنة لضد ذلك. وإني أحسب أن الشيخ سعد بن عبد الرحمن -والله حسيبه- من هؤلاء النفر الذين يتصفون بهذه الصفات، وقد شهد له ممن عاصروه في شبابه، وممن عرفتهم بأنه كان نقي السريرة، وليس له صبوة، وكان متمسكًا بتعاليم الدين الإسلامي منذ نعومة أظفاره.
أسأل الله العظيم أن يتغمده بواسع مغفرته ورحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، ويبارك له في ذريته ويلهم أبناءه البررة عبد الرحمن، وعبد الله، وناصر، وأحمد، وماجد، ويوسف، ومحمّد، وسليمان، ونوّاف الصبر والسلوان وما نقول إلا ما يرضي ربنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- د. زيد بن علي الدريهم