عثمان الخويطر
من مواليد عام 1352 هجري: مرت بحياتي أحداث وظروف «وصوادف» كثيرة، تغلبت على الصعب منها واستفدت من التجارب والمواقف الحرجة التي كادت أن تعصف بي أحيانًا وأحيانًا أخرى كانت دروسًا لي.
لم ألتحق بالتعليم إلا بعد العاشرة من العمر بسبب انشغالي مع الوالد -رحمه الله - في الفلاحة والزراعة. ولأسباب تتعلَّق بوضع العائلة المادي، تركت الدراسة بعد إكمال الصف الثاني ابتدائي وسافرت إلى مكة المكرمة للعمل وعمري في حدود الثانية عشرة، حيث أمضيت هناك سنة وأشهراً، عدت بعدها إلى عنيزة لمواصلة الدراسة. وفي أوائل السادسة عشرة من العمر، بعد إنهاء دراسة مستوى رابع ابتدائي، توقفت عن الدراسة للمرة الثانية وغادرت عنيزة إلى الظهران، رغبة في الالتحاق بشركة أرامكو، أملاً في العمل والدراسة فيها. ولم يكتب الله لي ذلك، فقد رفضوا قبولي بعد محاولتين لضعف طبيعي في نظر العين اليسرى.
أمضيت ست سنوات في المنطقة الشرقية، من عام 1949، ما بين وظيفة عامل في شركة التابلاين، في رأس المشعاب، مركز استلام وتجهيز أنابيب خط التابلاين خلال فترة الإنشاء، وأعمال حرة متفرِّقة، بين عرعر ورفحاء وحفر الباطن والكويت، ولم أوفق في أي عمل تجاري. والثلاث السنوات الأخيرة من الست السنوات أمضيتها موظفًا في أمانة الجمارك في الدمام، وكان مستوى تعليمي حينها لا يزال الرابع الابتدائي.
وعندما بلغت الثانية والعشرين قرَّرت الزواج، وفي الوقت نفسه أعدت التفكير في مواصلة التعليم الذي لم يغب عن بالي منذ تركت مقاعد الدراسة مبكرًا، بل كان دائمًا يلح على مخيلتي. وقبل الزواج بثلاثة أشهر، أقنعت بعض الشباب من زملاء العمل الذين لم يحصلوا على الشهادة الابتدائية، بأن نتقدم للحصول على الشهادة من المنازل. رحبوا بالفكرة ودرسنا المواد المطلوبة خلال بضعة أشهر وتقدمنا للاختبار ونجحنا. ومن ثم توجهت إلى عنيزة وتمم الله الزواج على خير. وكانت نيتي العودة إلى الدمام للعمل في وظيفة كان راتبها خمسمائة وسبعين ريالاً. وهو مبلغ كبير بمقاس ذلك الزمن. وكانت نيتي مواصلة الدراسة في المدارس الليلية التي كانت قائمة في ذلك الوقت.
وقبل السفر إلى الشرقية بأسابيع، علمت من أصدقائي أن وزارة المعارف قررت، بتوجيه خاص من جلالة الملك سعود -رحمه الله وأسكنه الجنة -، صرف مبلغ مائة وخمسين ريالاً شهريًا، مكافأة لكل طالب في المتوسط والثانوي، تشجيعًا للالتحاق بالتعليم العام. في ذلك الوقت كانت المتوسطة مدمجة مع الثانوي، تحت مسمى الثانوية، ستّ سنوات دراسية.
كان الخبر بالنسبة لي أكثر من مفاجأة! ووضعني في حيرة من أمري. هل أعود إلى وظيفتي في الدمام ذات الراتب الكبير وأكمل تعليمي عن طريق المدارس الليلية، وهي بطبيعة الحال لن تكون بجودة الدراسة النهارية، مع احتمال حدوث انقطاع عن الدراسة لسبب من الأسباب! قارنت ذلك مع التفرّغ الكامل للدراسة النهارية. أستلم مبلغ مكافأة الدراسة وأسكن وعائلتي في بيت الوالد رغم عدم وجود دخل ثابت له -تغمده الله بواسع رحمته -. كان اختيارًا صعبًا والأيام تمر بسرعة البرق بالنسبة لي. احتكمت إلى العقل، بعيدًا عن العواطف. توكلت على الله واخترت التوجّه الأكثر صعوبة، ولكنه أضمن لنجاح الدراسة. قرَّرت التفرّغ للدراسة، وأعيش مع عائلتي حياة تقشف، تتناسب مع الدخل البسيط. كان ذلك في بداية عام 1956. كان جلوسي على مقعد الدراسة مشهدًا غير مألوف! أولى متوسط. كان عمري اثنين وعشرين عامًا وكنت متزوجاً، والذي يجلس بجانبي عمره اثنا عشر عامًا، وحديث التخرّج من الابتدائي! ولكن ذلك لم يكن يهمني كثيرًا ولم ألق له بالاً، في سبيل فرصة مواصلة الدراسة التي كنت دومًا أحلم بها ويسَّر الله أمرها.
اجتهدت في الدراسة قدر المستطاع، وأكملت الست السنوات في أربع. فقد كنت استغل العطل الصيفية، إلى جانب العمل المؤقت، أدرس مواد الفصل القادم وأتقدم لاختبار الدور الثاني فأقفز سنة دراسية كاملة. كانت فكرة صرف المكافأة في تلك الظروف من خارج الصندوق، ولم تستمر إلا سنوات قليلة ثم توقفت، بعد أن حققت الهدف المنشود. وعندما تحصلت على الشهادة الثانوية في عنيزة عام 1959، أعلنت وزارة المعارف عن بعثات جديدة إلى أمريكا لدراسة شؤون البترول. وكان اسمي ضمن القائمة المختَارَة للبعثة. كان علي حتمية الاستمرار في المعيشة أربع سنوات أخرى على ما أستطيع توفيره من مكافأة الدراسة. كنا حينها نستلم مائتي دولار في الشهر، ومضطر لتوفير جزء بسيط منها لأهلي.
وفي صيف 1964، حصلت على شهادة هندسة البترول من جامعة تكساس الأمريكية، وعدت إلى الوطن، من فضل الله سبحانه وتعالى ثم مكرمة جلالة الملك سعود. التحقت بأرامكو دون أي عقبات أو معوقات! تدرجت في الوظائف وتقاعدت عام 1996، من وظيفة نائب الرئيس في مجال الإنتاج والحفر وهندسة البترول.
رحم الله جلالة الملك سعود بن عبد العزيز، وطيَّب ثراه، ذلك الإنسان الخيِّر الحبيب المحبوب. ولعله من نافلة القول أن نذكر أن دخل الدولة في منتصف الخمسينات الميلادية لم يكن كبيرًا، إذ كنا في بداية إنتاج البترول. ولكنها الحكمة وبُعْدْ النظر.