قليلة هي الدراسات التي تناولت بالبحث علاقة الفنون التشكيلية بالمجتمع في البلدان العربية، رغم أهميتها البالغة في العصر الذي نعيشه. ونقصد بذلك عصر الصورة بمختلف تشكلاتها المادية والرقمية وغيرها. هذه التشكلات الفنية تكون شديدة الأثر على المجتمع خاصة عندما تكتسح مجاله البصري اليومي داخل المرافق والساحات العامة، لأنها تؤثر في ذائقته الجمالية والحسية. وهو ما يجعلها تكون بمثابة المرآة العاكسة لطبيعة وخصوصية وثقافة ذلك المجتمع من جهة، وأيضاً لتطلعه نحو المستقبل. لذلك فإن دراسة من هذا القبيل تعدّ على درجة كبيرة من الأهمية لأنها تساهم في دراسة وتحليل مختلف العناصر ذات التأثير المباشر على المجتمع عموماً والمجتمع الحائلي خصوصاً.
اخترنا ضمن هذا المقال تسليط الضوء على الخصوصيات الجمالية للموروث الحائلي وكيف وقع التفاعل معه خلال الفترات السابقة، معرّجين على مدى تأثير ذلك على التكوينات النحتية التي انتشرت في مدينة حائل. ذلك أن جل هذه المجسمات النحتية تفتقر إلى النقد الفني والجمالي الدقيق والمتخصص، حيث إن ما كُتب في هذا الخصوص يقتصر على بعض الفقرات المتفرقة المنشورة على الويب، والتي رغم أهميتها، تبقى على درجة كبيرة من السطحية. كما نشير إلى مدى أهمية المحافظة على العناصر المعمارية التراثية المهددة بالاندثار والتي تستدعي مزيد العناية بهدف حمايتها من العوامل الطبيعية وتوسع المدينة الحديثة على حسابها.
1 - كنوز جمالية معمارية تراثية تحتاج إلى العناية والترميم
وسط المباني الحديثة الشاهقة في مركز مدينة حائل، تطل بقايا المدينة القديمة بلونها الترابي الجميل وأشكالها الزخرفية الرائعة المحفورة في صلب المادة التي بنيت بها وهي مادة الطين. هي نظرة إعجاب كبير بجمال ما تبقى من هذه البيوت الشامخة، رغم قساوة العوامل الطبيعية ورغم زحف المدينة الحديثة الجائر عليها (صورة عدد1). هي مدينة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بأزقتها الضيقة ونوافذها الصغيرة وترابط بناءاتها. مجموعة من الصفات التي تشترك فيها مع جل المدن السعودية والعربية الإسلامية الأخرى، التي ربما كان بعضها أكثر حظاً من هذه في مستوى مقاومتها للعوامل الطبيعية بسبب مكوناتها البنيوية، وأقصد هنا المواد المستعملة مثل الحجارة والجير. غير أن ما يميز بيوت الطين عن غيرها، هو ذلك الشعور بالحميمية بين الإنسان والطبيعة من جهة وأيضاً بين الإنسان وأخيه الإنسان الذي يجاوره. فلا وجود لمواد خارجة عن البيئة الطبيعية للمنطقة، حيث إن كل مواد البناء متأتية من أرض حائل وأخشابها المقتطعة من الأشجار وخاصة غابات النخيل. هذه الأشجار المباركة التي رفضت مغادرة المدينة القديمة لتظل شاهدة على استمرارية الحياة ورفض الهجران على خلاف سكان حائل القديمة الذين هجروها (صورة عدد2). وربما يعود ذلك إلى مادة الطين التي تمثل أحد أهم مقومات الحياة، خاصة إذا امتزج بالقش وبالمواد العضوية التي استخدمها البناؤون لتصير الجدران أكثر قوة وأكثر روعة. فالجدران في مدن الطين عبارة عن كائن حي يتنفس ويتمدد ويتقلص وأيضاً يتفاعل ويحنّ من خلال قدرته على حماية ساكنيه من شدة الحرارة وبرودتها.
هذا الجمال الوظيفي والمعماري الذي كان بالنسبة لعديد المدن العربية الإسلامية الأخرى مادة اعتزاز مواطنيها والسائحين المثقفين على غرار مدينة القيروان أو مدينة صفاقس، يدفعنا إلى الحديث عن مدى أهمية ترميم وإعادة أحياء ما تبقى من مدينة حائل لغايات تراثية وسياحية، وأيضاً لحفظ الذاكرة الثقافية الحائلية والسعودية عموماً، خاصة وأن هذه البناءات تتميز بخصائص زخرفية على درجة كبيرة من الأهمية الجمالية والثقافية. فهذه الزخارف تمثل حلقة الربط، أو كذلك الطابع المميز للثقافة والهوية العربية الإسلامية. فهي تمثل القاسم المشترك بين جل البلدان الإسلامية من بلاد الأندلس إلى حدود الصين، وأقصد بذلك التكوينات الهندسية أو ما أطلق على تسميتها بالأطباق النجمية. هذه الأطباق النجمية التي مثّلت محور أبحاث علماء التاريخ والجمال، لما لها من دلالات رمزية ودينية، ولكونها أصبحت بمثابة علامات مميزة لحضارة أبهرت العالم بمعارفها في جل المجالات العلمية والأدبية والفنية والمعرفية. (صورة عدد3). فقد اكتست هذه الزخارف الهندسية مكانة كبيرة في التراث البصري العربي الإسلامي، حيث مثّلت الأطباق النجميّة والتكوينات الهندسية الزخرفية محور أبحاث العديد من الفنانين العرب المعاصرين أمثال الفنان التونسي لطفي الأرناؤوط والفنان سمير التريكي والفنان السوري عبد القادر الأرناؤوط والفنان المغربي عبد الله الحريري، إضافة إلى عديد المصممين الغربيين أمثال المصمم الفرنسي الكبير جان نوفال (Jean Nouvel) الذي صمّم واجهة معهد العالم العربي بباريس انطلاقاً من خصوصيات هذه التكوينات الهندسية. فقد مكّنه هذا المسار من تصميم متحف اللوفر بأبوظبي بالإمارات العربية المتحدة الذي أثّثه بقبة معدنية مميزة مستوحاة من خصائص ومميزات الأطباق النجمية العربية الإسلامية، حيث يمكّن هذا السقف من نفاذ الضوء إلى المتحف على غرار الأطباق النجمية بأبعادها الرمزية المختلفة والمتعددة. فقد قال جان نوفال في مقال نشر على الانترنت بخصوص متحف اللوفر بدبي تحت عنوان المتحف والبحر بأن مشروعه قائم على علامة رئيسية للعمارة العربية وهي القبّة. لكن القبّة التي قدمها هذا المصمم جاءت بأسلوب حديث حيث تتمكن أشعة الشمس من الولوج عبرها إلى داخل قاعات العرض من خلال الفتحات التي استنبطها الفنان من التكوينات النجمية المميزة للفنون الهندسية العربية الإسلامية (نوفال جون2017). وهو ما ييل إلى الإشارة إلى مدى أهمية هذه الأشكال الزخرفية والخطية المحفورة على جدران البيوت الحائلية القديمة بهدف الحفاظ عليها من الاندثار، وذلك لإيماننا بمدى أهمية هذه الزخارف المعمارية والمباني القديمة التي تمثّل أحد أهم الركائز السياحية في جل المدن السياحية العالمية.
وقد وجدنا هذ الوعي من خلال كتابات أحد أبناء حائل وهو الإعلامي سالم صالح الراجح الذي نادى على صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي بضرورة الحفاظ على التراث المعماري وتسليط الضوء على الزخارف الحائلية القديمة من خلال نشر مجموعة من الصور التي اخترنا البعض منها للدراسة والتحليل، وذلك لإيماننا بمدى أهمية هذه الزخارف والمباني القديمة التي تمثل أحد أهم الركائز السياحية في جل المدن السياحية العالمية.
وقد لاقى هذا النداء استجابة سريعة من الجهات الرسمية من خلال وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، الذي أكد على أن الوزارة ستعمل على المحافظة على زخارف حائل التراثية) الموقع الإلكتروني السعودي عاجل). وفي ذلك أكثر من إشارة إلى مدى حرص الدولة على دعم كل مظاهر الفنون والثقافة، حيث قدّم الوزير إلى صالح الراجح كامل عبارات الامتنان على غيْرته على الموروث الحائلي والسعودي عموماً.
2 - سيطرة الأشكال الحديثة وتشكّل مظاهر الحنين إلى الماضي
أمام التحولات العمرانية الضخمة وخروج الإنسان الحائلي إلى المدينة الحديثة حيث المباني العالية والشوارع الفسيحة، شعر الإنسان في حائل بفقدانه التدريجي للأشكال التراثية المعمارية، وأيضاً فقدانه لجل الأغراض الحياتية الاستعمالية القديمة. هذا التغيّر ولّد لديه نوعاً من الحنين تجاه هذه العناصر المفقودة أو التي بدأت تفقد بريقها وحضورها داخل البيوت القديمة أمثال الدلة والسلال المصنوعة من سعف النخيل والقربة التي كانت تستعمل لحفظ السوائل. لذلك اختار المشرفون على تجميل مدينة حائل إعادة تمثيل وتقديم هذه العناصر التراثية في الساحات العامة ومفترق الطرقات، ولكن بأساليب جديدة تعتمد على تضخيم هذه العناصر من أجل مزيد إبرازها إلى العامة، وخلق نوع من الإثارة البصرية عبر أسلوب التكبير والتضخيم. وهو توجه وجد له حضوراً في الفن المعاصر، ولكن غالباً لا تكون هذه الأشكال المضخمة في اتصال مباشر مع الأشكال التراثية في البلدان الغربية.
وقع تثبيت جل المجسمات النحتية التراثية في مستوى تقاطعات الطريق الرئيسي لمدينة حائل وهو طريق الملك عبد العزيز مع الطرقات الأخرى. فبمجرد دخولك إلى المدينة من الناحية الجنوبية، تعترضك قربة ضخمة جداً صيغت بطريقة مطابقة للقربة الأصلية التي تصنع عادة من جلد الحيوان الذي يتحول إلى إناء لحفظ السوائل. فهي عبارة عن شكل جلد ضخم يزيد ارتفاعه عن ثلاثة أمتار ومحيطه عن خمسة أمتار، معلق بواسطة حبال ضخمة في مستوى نقطة ترابط ثلاثة أعمدة من الأخشاب الضخمة. ويرتفع هذا الشكل إلى ما يزيد عن ستة أمتار. كما وُضع أسفل المجسم كوب أبيض به زخارف حمراء بسيطة. وهذا الإناء يذكرنا بكوب القهوة الحائلية المصنوع عادة من البورسلان. غير أن هذا الكوب جاء بدوره ضخماً ليكون في تناسق من حيث الحجم مع القربة الضخمة. (صورة عدد 4).
وعند دخولك إلى المدينة من الناحية الشمالية عبر نفس طريق الملك عبد العزيز، تطل عليك سلة ضخمة مملوءة بالبرتقال. هذه السلة التي تحيل إلى السلة التقليدية المصنوعة بسعف النخيل، بُنيت بقوالب أسمنتية ملونة تميل إلى اللون الأصفر الترابي، وهو لون سعاف النخيل الجاف، وبداخلها مجموعة من أشكال البرتقال البرتقالية التي تعلوها بعض الأوراق الخضراء. يتجاوز ارتفاع هذه السلة 4أمتار، إضافة إلى تربّعها فوق جبلٍ صخري صغير، ما زادها شموخاً وجعلها تصمد أمام الأشغال الكبيرة التي شهدها محيطها جراء بناء جسر ضخم أصبح يسمى باسمها. ولكن بالرغم من ذلك حرص المهندسون على تطويع مشروعهم بطريقة تضمن عدم المساس بهذا المجسم، وهو ما يعكس مدى أهمية هذا المعلم الفني الذي أصبح رمزاً للجسر والمكان عموماً (صورة عدد 5). وفي ذلك إشارة إلى مدى حرص أهالي حائل على المحافظة على كل ما هو جميل وفريد في منطقتهم.
عند مواصلة طريقك نحو وسط المدينة، يطل عليك مجسم ضخم هو عبارة عن دلّة ضخمة متكونة من أربعة أوانٍ تسكب كل واحدة منها سائلاً وسط فنجان خاص بها. وفي ذلك إشارة إلى القهوة العربية وتبيان لمدى أهمية هذا العنصر في حياة الإنسان الحائلي الذي يعد رمزاً يتجاوز حدود مدينة حائل نحو باقي مدن المملكة.
كما لا يسعنا أن ننسى صندوق المجوهرات الذي ثُبّت في إحدى ساحات جنوب حائل القريبة من طريق المطار، وهو عبارة عن مجسم كبير مصنوع من مادة الإسمنت. قد أشبع الفنان هذا الصندوق بمجموعة من الزخارف التي تذكرنا بالمسامير التي تزخرف صناديق الذهب التقليدية. وأراد لهذا الصندوق أن يبيح عمّا بداخله من خلال رفع الغطاء الذي يعلوه. وقد أضفى على الصندوق مسحة جمالية من خلال شكل السبحة التي اختار لها لوناً أزرق ليتباين مع لون الصندوق البني. كما ساهمت هذه السبحة في خلق ربط بصري بين الصندوق وغطائه والأرضية التي تحمله، إضافة إلى اليد التي تخرج من الأرض وتمسك بجزء من السبحة وغطاء الصندوق لتبقيه مفتوحاً. وفي ذلك أكثر من دلالة وأكثر من معنى (صورة عدد 6).
بالإضافة إلى كل ذلك، تنتشر مجموعة من المجسمات النحتية التراثية الأخرى في مناطق متفرقة من المدينة من قبيل المنفاخ الذي كان ولا يزال يستعمل للنفخ في اللهب. وقد نُصب هذا الأخير في أحد مفترقات الطرق بشرق صديان، ويمتاز بضخامته حيث يزيد حجمه عن ثلاثة أمتار مربعة، إضافة إلى دوار الشموع المنتصب بمنطقة الزبارة.
بذلك يمكن القول إن جميع المجسمات التي ذكرناها والتي تعدّ من أبرز المجسمات النحتية التي انتصبت بمدينة حائل قبل ما يزيد عن 8 سنوات، اعتمدت بشكل مباشر على تكبير العنصر التراثي دون المساس بمكوناته البنيوية أو اللونية.
3 - بدايات تشكل العنصر الجمالي خارج حدود العنصر التراثي
وسط هذا الزخم الهائل من المجسمات النحتية التراثية، يبرز مجسم مختلف عنها نُصب عند تقاطع شارع الأمير مقرن بن عبد العزيز بمنطقة الزبارة، يذكرنا بشكل الشمس (صورة عدد 7). تتألف مكونات هذا المجسّم من شكل نصف كروي يتوسط مركز التكوين وقع طلاؤه باللون الأصفر، تحيط به مجموعة من الأقواس نصف دائرية. وهو ما يضفي على التكوين بنية إشعاعية دعّمها الفنان المصمم بمجموعة من المستقيمات التي تربط بين مركز الشكل الكروي والأقواس المحيطة به وفق تكوين إشعاعي مركزي، ما يجعلها تذكرنا بأشعة الشمس المنبثقة من مركز الشكل النصف كروي.
بذلك فإن هذا التكوين الهندسي يختلف عن بقية التكوينات لكونه يتجاوز البعد التشخيصي أو التضخيم، نحو إيجاد تركيبة هندسية مجردة تحيل إلى شكل الشمس، غير أنها تختلف عنها خاصة في مستوى الأقواس الثلاثة التي تحيط بمركز التكوين.
صُمّم هذا المجسّم ليكون بمثابة شمس تبزغ عند المساء حيث تؤدي الإضاءة الكهربائية دوراً كبيراً في إضفاء مسحة جمالية على المكان، حيث يشع الشكل الكروي والأقواس المحيطة به وسط فضاء من الأضواء البرتقالية التي تضفي على المكان مسحة جمالية مميّزة. هذا التكوين الهندسي والجمالي يعكس مدى مصالحة الإنسان في حائل مع التعبيرات التشكيلية الجديدة والتي ستجد لها حضوراً مميزاً خلال السنوات القليلة التي لحقت إنجاز النماذج السابقة، حيث شهد المشهد الجمالي تحولاً جذرياً عند دخول مجموعة من المجسمات التجريدية المستقلة عن أية مرجعية تراثية. وهو ما يعني بأن مجسم دوّار الشمس كان بداية انطلاقة نحو تحرر المجسمات النحتية من تقليد العنصر التراثي من أجل اكتساح أبعاد جمالية جديدة تفتح نحو اللغة التشكيلية العالمية، التي تعتمد بصفة كبيرة على عنصر التجريد، حيث نصبت خلال السنوات القليلة الماضية مجموعة كبيرة من المجسمات النحتية المفرغة من كل مدلول تراثي. وهو ما جعلها تزاحم بدرجة كبيرة المجسمات النحتية التي كنا قد قدمناها وبيّنا خصائصها الجمالية والتعبيرية والتراثية.
** **
منذر المطيبع - فنان تشكيلي وناقد. أستاذ مشارك جامعة حائل