عبدالرحمن الحبيب
في زمن التطور التكنولوجي الحالي حيث الأقمار الصناعية تغطي كل شبر من الأرض، يبدو استخدام المناطيد للمراقبة والاستطلاع فكرة قديمة إن لم تكن بدائية، وما حصل الشهر الماضي من عبور المنطاد الصيني للأجواء الأمريكية وتم إسقاطه، يبدو غريباً ومثيراً للسخرية.. فما الذي يحدث؟ الإجابة تبدو حتى الآن غامضة، فالبعض يقول إنها فعلاً للمراقبة والتجسس وهو الأكثر ترجيحاً، وآخرون يقولون إنها للأعمال المدنية كمراقبة الطقس وسهولة نقل الأجهزة إلى الغلاف الجوي العلوي وأنه «دخل سماء أمريكا بفعل قوة قاهرة»، وثمة من يقول إنها للاختبار أو للاستفزاز رداً على الموقف الأمريكي من تايوان الذي تعتبره بكين مستفزاً.. والأمر العجيب الآخر أن الطرفين الأمريكي والصيني يتهمان بعضهما بأن بالونات الطرف الآخر سبق أن حلقت فوق أراضيها مرات عديدة دون إذن.
فإذا كانت للمراقبة فلماذا البالونات بدلاً من الأقمار الصناعية؟ المختصون يقولون إن المناطيد يمكن أن تجمع صورًا وإشارات عالية الدقة، وتحلق مرتفعة إلى نحو 60 ألف قدم مرتفعة عن مجال الطائرات المدنية بنحو 18 ألف قدم في جزء من المجال الجوي مما يجعل تعقبها صعبًا نسبيًّا، كما أنها قادرة على التوقف فوق منطقة واحدة لفترة أطول من الأقمار الصناعية التي تشكل صورة رقمية لإرسالها إلى الأرض من ارتفاع حوالي 200 ميل، ولا يمكنها التوقف فوق منطقة معينة أو توفير فيديو في الوقت الفعلي لموقع واحد.
التاريخ يفيدنا بحادثة مشابهة للمنطاد، ففي مايو 1960 أقلعت طائرة تجسس أمريكية من طراز يو تو من باكستان لتحلق على ارتفاع شاهق عبر الاتحاد السوفيتي كجزء من مهمة لتصوير المنشآت الرئيسية والمواقع العسكرية نيابة عن وكالة المخابرات المركزية. رآها الروس وأطلقوا عليها النار. تمكن الطيار من النزول بالمظلة واعتقل. في واشنطن، زعمت إدارة أيزنهاور بشأن مهمته، مدعية أن الطائرة كانت «طائرة طقس» انحرفت عن مسارها بعد أن واجه طيارها «صعوبات في معدات الأكسجين الخاصة به». تسبب الحادث في تسميم مؤقت للعلاقات الأمريكية السوفيتية لكن لم يصطدم الجانبان، إذ كما يقول الكاتب البريطاني جوناثان ستيل، كان التجسس مقبولًا وأمرًا روتينيًّا. قد تتغير التكنولوجيا مع إجراء تحسينات في أنظمة جمع المعلومات، لكن ممارسة المراقبة تعود إلى زمن سحيق ولا يمكن إيقافها.
التقدم التكنولوجي في أعمال التجسس على القدرات العسكرية منتشر في شتى أنحاء العالم ويتم تحديث الأساليب باستمرار، آخرها أجهزة الاستماع والتنصت على الهاتف بأنظمة إلكترونية لاختراق رسائل البريد الإلكتروني والرسائل الأخرى عبر الإنترنت. بل إن التنصت على الهاتف والمراقبة السيبرانية لا يتم فقط من قبل الحكومات على الأعداء المحتملين أو الفعليين بل حتى بين الدول الصديقة، حيث نذكر الخلاف في عام 2013 الذي اندلع خلال رئاسة باراك أوباما بعد أن كشف إدوارد سنودن أن وكالة الأمن القومي الأمريكية كانت تستمع إلى محادثات الهاتف المحمول للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لسنوات. كان الألمان محرجين مثل الأمريكيين. أعلنت ميركل بغضب أن «التجسس لا يحصل بين الأصدقاء» ولكن التحقيق الذي أجراه المدعي الفيدرالي الألماني تم إسقاطه بهدوء.
المنطاد الصيني ليس جديداً فقد تم استخدام البالونات للتجسس والتفجير طوال الحرب العالمية الأولى.. كان أحد الطيارين الأمريكيين فرانك لوك معروفًا باسم «أريزونا بالون باستر» بسبب فورة إطلاق بالون أسقطت 14 بالونًا ألمانيًا عبر سماء أوروبا في غضون أسابيع قليلة في عام 1918. لكن المدنيين الأمريكيين لم يبدأوا في القلق بشأن الهجمات من السماء حتى الحرب العالمية الثانية، عندما فرضت المدن الكبرى انقطاع التيار الكهربائي وتركيب بطاريات مضادة للطائرات، عندما قامت اليابان بإطلاق حوالي 9000 قنبلة بالونات باتجاه الساحل الغربي في عامي 1944 و 1945، باستخدام نفس تيارات الرياح عالية الارتفاع التي ساعدت المنطاد الصيني، حيث حملت أجهزة فو جو حوالي 50 رطلًا من المتفجرات، مصممة للإسقاط فوق أمريكا الشمالية في نهاية الرحلة. كان الأمل في أن تنشر الهلع، وتشعل حرائق الغابات، وينقل الحرب إلى داخل أمريكا (The Atlantic).
أيًّا يكن فإن إسقاط المنطاد الصيني هو علامة على خطورة الوضع عالمياً.. صحيح أنه ليس بخطورة يمكن أن تؤدي إلى مقدمات حرب. لكن مخاطر تراكم الأزمات أخرى أكثر جدية تتزايد، مما يذكرنا بلحظة أزمة الصواريخ الكوبية، عندما كان مصير العالم كله على المحك في وقت عصيب أرعب العالم كله.
وزارة الخارجية الصينية قالت إنه «منذ العام الماضي، حلقت بالونات عالية الارتفاع في الولايات المتحدة فوق الفضاء الجوي الصيني دون إذن من الصين 11 مرة، والمسؤولون الأمريكان يقولون إنها ليست المرة الأولى التي تحلق فيها مناطيد صينية فوق أجوائهم.. الإشكالية الآن هي في المواقف الساخنة بين الطرفين، بينما كان الجانبان أكثر استعدادًا للتسامح مع التجاوزات المتصورة لبعضهما البعض حين كانت الأجواء فيها انسجام، أو قابلية للتفاوض لفض النزاع، كما فعلا بعد القصف الجوي الخاطئ للسفارة الصينية في بلغراد أثناء عمليات الناتو في عام 1999 .