لم تجرِ العصفورية في أسلوبها على نمط الأساليب الأدبية التقليدية الشائعة في كتابة الرواية، وهذا من الابتكار الذي يهب للنتاجات الأدبية، الحيوية والاستمرار، وفي هذا استحضر قول كيليطو: «إن الحيوية الأدبية رهينةٌ بقوة التغلب على التقاليد [الأدبية] وبتجاوز الخطابات السابقة»، وهي حيويةٌ عبّر عنها توفيق الحكيم، بقوله: «إنما الابتكار الأدبي والفني هو أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفة للناس فتسكبُ فيها من أدبك وفَنِّك ما يجعلها تنقلب خَلْقًا جديدًا يُبهر العين ويُدهش العقل».
ولكن لماذا نتفاعل معها بعد كل هذه السنوات، وبعد مجموعة الدراسات النقدية التي تناولتها، وماذا يمكن أن نقول؟
تساؤل فيه شيء من الغرابة التي قد يُبددها إدراك القارئ بأن في العودة إلى الاشتغال على النصوص القديمة أو المدروسة إثارة للإبداع، وتوطيدًا لعلاقة اللاحق مع السابق. والحديث عن العصفورية حديثٌ ماتعٌ، فهي «يولسيس» العربية، وكاتبها والد الرواية العربية الحديثة! إنها رواية تزخر بموسوعيّة في متنها الحكائي وتجدد في معمارها الجمالي، كتبها غازي القصيبي -رحمه الله- برمزية عميقة، وأدخلها فضاء «الجنون العاقل» بأسلوب سرديٍّ فريد، أهّلها لأن تكون نقطة التحول الفنية في الرواية السعودية، ومنحها القدرة الحقيقية على المعاصرة.
والعصفورية في الواقع ليست من نمط الروايات التقليدية التي تحتفي بالمكونات السردية كالبطل والمكان والزمان والحبكة المتماسكة، بل هي رواية حداثية بامتياز، توضح ذلك سمات الحداثة المتناثرة فيها، ومن أهمها الاحتفاء بعالم النفس فرويد الذي لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاتها.
كما أن الرواية اكتسبت قوتها وقدرتها على المعاصرة من جانبين؛ جانب القضايا الإنسانية المتجددة التي تطرقت إليها، وهي قضايا تفتح آفاقًا واسعة لمقاربة العصفورية نقديا وعلميا من الجانب الأدبي؛ ومن الجانب النفسي والثقافي، والأنثربولوجي، والتاريخي، والسياسي، واللغوي؛ حيث استشهدت الرواية بالعديد من الأحداث، والعديد من الشخصيات العربية والغربية، إضافة إلى تناولها لصيغ، وتراكيب، وتصريفات مختلفة للأفعال وتكييفها لها ببراعة تكشف لنا عبقرية كاتبها.
أما الجانب الآخر، فيتمثل في قالب الكرنفال الذي حوى أسلوبها السردي الغريب الذي قُدّمت فيه، فبنية العصفورية التحمت مع بنية الكرنفال التي كوّنت -بطبيعتها- في النص الإبداعي شكلًا من أشكال الممارسة الاجتماعية الجماهيرية التي تتشابه مع دور الكرنفال في واقعه، وبذلك كانت الأنساق الكرنفالية الموظفة في الرواية سببًا رئيسًا في تشظي بنيتها السردية وجمالية عمارتها وتعددية حواراتها، وقدرتها على التعبير عن الممارسات الاجتماعية المتناقضة في الواقع، ومن هنا خرجت الرواية عن أعراف الرواية العربية الشائعة في الأسلوب لأسلوب جديد ومغاير، وهذا مؤشر على حيويتها، التي ضمنت لها البقاء.
إنَّ التجديد -بالخروج عن مسار التقاليد الأدبية في الكتابة والإبداع- من أسس الابتكار، وهكذا يجب النظر إليه، وتشكيل علاقتنا معه؛ لأنه مما يعطي للعمل القوة والاستمرارية.
ومما لا شك فيه أن التجديد -عادةً- يتلقاه القراء بتفاوت؛ لجدّته لا لسوئه، ولا غرابة، فقد وُصم المتنبي ونظمه الشعريِّ في السابق بعدم الشاعرية؛ لأنه تجاوز الخطابات الشعرية السائدة في عصره، رغم شهرة المتنبي وأهمية شعره!
و»هذا ليس موضوعنا الآن»، -كما يقول بطل الرواية عند كل استطراد- موضوعنا العصفوريَّة، وحيويَّتها وأسلوبها الكتابيِّ البديع!
نعود لنقول: إن الخروج من قراءة العصفورية يشبه الدخول إليها؛ فكلاهما مثير للفكر وللجدل ولا يخلو من صعوبة نتيجة لما تضمنته الرواية من معلومات معرفية ومكونات سردية -سردتها ذاكرةٌ موسوعيةٌ- يمكن بها عدّ العصفورية عملًا جماليًا ثريًا -جديرًا بالاطلاع والقراءة والدرس-، ونقطة تحول في حقل الرواية السعودية فنيًا؛ لبنيتها الروائية المتشظية وعناصر الكرنفالية المتوافرة التي تواشجت مع النص بنية ومضمونًا، فكان لها الخلود.
** **
- إبراهيم المرحبيّ