سراب الصبيح
إني أصنف المتحدثين إلى ثلاثة أصناف: من يحمل فكرة، لكنه يقدمها بتعقيد لفظي، فتضيع فكرته، وتبقى حبيسة في ذهنه؛ ومن لا يحمل فكرة، ويصوغ فراغه بتعقيد لفظي؛ لكي يوهم المتلقي أنه يحمل علما؛ وأما الدكتور نايف بن نهار فهو من الصنف الثالث: ذلك الذي يحمل فكرة عميقة وفريدة في آن، ويقدمها بتبسيط لفظي، فتصل للأكاديميين، مثلما تصل لثلة من العامة؛ فتؤتي أكلها، ويعم نفعها.
في ظني، أن ما يميز طرح الدكتور نايف بن نهار؛ هو أنه فهم بينية العلوم الإنسانية، ومن ثم طبق هذا الفهم على طرحه، فإني استمعت لمحاضرات كثيرة له، ولقاءات تلفزيونية، مثلما أني مطلعة على طرحه المكتوب، فوجدته لا يقيد نفسه في تخصصه الأكاديمي الدقيق، ولا يتحدث عن بقية العلوم حديث المختص بها، بل إنه بطريقة فريدة، فهم جيدا معنى البينية بين هذه العلوم، فأضحى طرحه ممتدا من هذا الفهم في طبيعة تلقائية تتبين في حديثه دون تكلف منه لتوظيف البينية، بل إنها تأتي إليه طوعا لتخدم الفكرة في طرحه.
حضرت لقاء يوتيوبيا له، وقد كان من ضمن ما تحدث به فكرة سميتُها «الوعي المصطلحي». يتحدث ابن نهار في ذلك اللقاء؛ أن الوعي تراكمي، يبنى على أربع مراحل: الظاهرة، وهي مشتركة في الإنساني؛ التصور، وهو الانحياز الثقافي لدى كل أمة من الشعوب المتعددة في البشرية؛ اختيار المصطلح، وهو المنوط بتصور الثقافة لحيازاتها الفكرية؛ تعريف المصطلح، وهو أيضا بدوره يرتبط باختيار المصطلح الذي حدده الانحياز إلى التصورات. ثم بدأ يوضح فكرته هذه؛ أن أي ظاهرة هي مطروحة في العالم، يفهمها العالم أجمع، لكن الثقافات البشرية تنشطر، فإن لكل أمة ثقافتها الخاصة بها عبر امتداد التاريخ، فهناك أمة تقبل هذه الفكرة وأخرى ترفضها، وبناء على ذلك تختار الأمة المصطلح الذي تسمي به تلك الظاهرة، فيكون سلبيا أو إيجابيا، هذا الاختيار الذي جاء من تصور الأمة الثقافي لهذا المصطلح، ومن ثم تضع له تعريفا يعبر عن تصورها للظاهرة؛ فإن كان تصور الظاهرة مرفوضا لدى أمة ما، وضعت لها مصطلحا سلبيا، ومن ثم تعريفا سلبيا، وإن كان التصور يقبل الظاهرة في أمة أخرى كان العكس. ومن ثم يشير إلى أمر في غاية الأهمية؛ وهو اللجوء إلى تغيير المصطلحات من السلبي إلى الإيجابي؛ ليتغير التصور السلبي عن الظاهرة في ذاكرة الأجيال القادمة عبر امتداد السنين!
إن هيمنة الغربي ترتبط بتوجيه المصطلح كيفما أراد هو من توجيه التصورات التي تختبئ خلف المصطلحات. وهذا ما وجهني إلى قول للدكتور نايف في إحدى تغريداته، جاء في معناها: «لا أعرف متى سيدرك الغربيون أن قيمهم ليست عالمية. فهناك ثقافات أخرى بقيم مختلفة يجب احترامها على قدم المساواة. دعونا لا ننسى أن الغرب ليس المتحدث باسم الإنسانية.»
انطلاقا من هيمنة الغربي الفكرية سأعرج على مسألة تربط بين إحدى المراحل التي ذكرها الدكتور نايف وبين الحرية في الإيديولوجيا الفكرية؛ وهي المرحلة الثانية: التصورات. أذكر أني كتبت عبارة قبل فترة طويلة، حيث قلتُ: «في رأيي؛ أن الحرية الأسمى هي التحرر من النفس! التحرر من أن تكون هذه رغباتي وهذه خياراتي، وعليه فلن تكون لدي أية رغبات وخيارات!»
أذكر نصي هذا؛ لأقول: إن فكرة الحرية الفكرية التي نادى بها الغربي، ومن ثم نادت بها البشرية تباعا، هي ليست حرية؛ ذلك أن كل عقل بشري هو مكون من إيديولوجيا فكرية تشكلت عبر امتداد عمره في الحياة، فصارت له رغبات يريدها ويظن أن من الحرية أن يحصل عليها، فبذلك تكون الحرية هي السماء العالية التي تعطي الجميع الحق في اتخاذ قراراتهم، في حين أن قراراتهم ليست حرية خالصة، إن هي إلا إيديولوجيا تراكمية شكلت فكره، فوجهته للحرية التي تريدها تراكماته، لا يريدها هو في صفاء إنسانه الأصل قبل هذه التراكمات الإيديولوجيا.
هذا كله على الصعيد الفردي، وأما على الصعيد الجمعي؛ فإن هذه التصورات الإيديولوجيا التي شكلت فكر الغربي هي من وجهته إلى وضع المصطلحات الإيجابية للظواهر السلبية لدى ثقافات الأمم الأخرى، وهيمنته هي من خولته لتمرير تلك المصطلحات. وما يجب على الشعوب الأخرى أن تدافع عن تصوراتها الجمعية التي تعبر عن هوية ثقافتها، ولا تسمح لنفسها في ابتلاع كل مصطلح إيجابي يمرر الغربي خلفه تصوره الإيجابي للظاهرة، والذي هو تصور سلبي لديها. لا بأس في الانفتاح، لكن المعيب هو الانسلاخ من الهوية لدى الشعوب، الذي لا يدل إلا على ضعف في شخصياتهم.
وختاما، فإن «الوعي المصطلحي» الذي أشار إليه الدكتور نايف، هو أمر في غاية الأهمية والخطورة في آن، وإني أنبه إلى ضرورة تبني هذه الأفكار، وتعليمها للطلبة في الجامعات؛ وذلك لأن المصطلح كما قال الدكتور نايف في لقائه هو «البوابة الكبرى لتزيف الوعي أو تصحيحه، والأمة التي لا تراقب مصطلحاتها لا تراقب وعيها»، فإن المصطلح ليس تسمية فقط نستطيع التواصل به ووصف ظواهر الأشياء، بل إنه يختزل وعيا كاملا لشعوب كونت هويات ثقافاتها عبر امتداد التاريخ. وكما قال الدكتور أيضا: «اللغة تصنع الوعي ليس فقط في الكلام، بل من كل ما يمس التواصل، لكن أهم ما في اللغة هو الكلام، وأخطر ما بالكلام المصطلحات».