د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
هناك تفكيران بلاغيّان في تعليل وتفسير البيان العربي، وقد استأثرا بالعقل البلاغي، وأدَّى الأمرُ إلى اختلاف الرؤى حولهما، واختلاف الموقف من جهدهما، واختلاف الحكم عليهما، والناسُ اليوم بين مقاربٍ ومُبَاعد، ومنهم من سلبتْ عقله العُجمة فكال لهما كثيرًا مما لا يستحقَّانه، ومنهم مَنْ لعبت به الأهواء فهو يردِّد كلامهما وكأنّه ألفاظٌ جوفاء بلا غاية وبلا بداية.
أحد هذين البيانين بيانٌ يريدُ أنْ يثبت أنّ البيان بكل أنواعه ومنه الكلامُ الذي يكون سبيل الاختيار فيه إمَّا من الموجود استمدادًا من الألفاظ أو إيجادًا بالموجودِ نظمًا للحروف، وهو الذي يمكنُ تثويرهُ من نصوص الجاحظِ حِينَ يقول: «والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ، والبدويّ والقروي، والمدنيّ، وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الطبع وجودة السّبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النّسج، وجنس من التّصوير».
والجاحظ في هذا السياق يشيرُ إلى الشعر تعليقًا على تفضيل أبي عمرو الشيبانيّ بيتين يراهما الجاحظ مخالفين، وهنا قوله:
لا تحسبنَّ الموت موت البلى ... فإنّما الموت سؤال الرّجال
كلاهما موت ولكنّ ذا... أفظع من ذاك لذلّ السّؤال
وهذان البيتان اشتملا على إقامة الوزن، وسهولة المخرج، دون كثرة الماء، وصحّة الطبع، وجودة السبك؛ لأنّه شعر تلاشت منه الشعريّة، والشاهد في كلام الجاحظ (اختيار اللفظ) الذي هو شرطٌ في الشعريّة لا شرطٌ في بناء الشعر، والشعر إقامة الوزن الذي يوضع عليه الكلامُ، والشعريَّة هي الإيغال في النغميّة الأدبيّة بالارتقاء نحو تنغيم الكلام بإضافةِ ما يبعث على إيقاظ الحِسِّ وتكثيف النغم.
وقال أيضًا: «وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ المعنى، عشقاً لذلك اللفظ، وشغفاً بذلك الاسم، حتى صار يجر إليه المعنى جراً، ويلزقه به إلزاقاً. حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسماً غيره، ومنعه الإفصاح عنه إلا به».
وهذا من الجاحظ إشعارٌ بأنّ البيان لا يكون بالاختيار من موجود الألفاظ؛ لأنّ الاختيار لا يكون إلا بعد تهيئة المعنى وانكشافه، فيجيلُ البليغ ذهنه في الألفاظ التي إذا كانت في الشعر زادته فوق (إقامة الوزن) كثرة الماء وسهولة المخرج وجودة السبك وصحّة الطبع فصار كما عبَّر عنه عبد القاهر الجرجاني (الشعر الشاعر)؛ لأنّه اشتمل على المعايير كلها، وإذا فقد الوزن صار (الكلامَ الفاخر)، وهو شعرًا أو نثرًا (النمطُ العالي الشريف).
ولاهتمام الجاحظ وأضرابه بالاختيار نجده يؤكدُ أنّ صاحب البيان بالاختيار ذو فضلٍ واقتدارٍ في المنطق فوق ما يمكنه من التغلب بالكلام، وذلك حين قوله: «وليس يقوى على ذلك إلا امرؤ في طبيعته فضل عن احتمال نحيزته وفي قريحته زيادة من القوة على صناعته، ويكون حظه من الاقتدار في المنطق فوق قسطه من التغلب في الكلام، حتى لا يضع اللفظ الحر النبيل إلا على مثله من المعنى، ولا اللفظ الشريف الفخم إلا على مثله من المعنى. نعم، وحتى يعطي اللفظ حقه من البيان، ويوفر على الحديث قسطه من الصواب، ويجزل للكلام حظه من المعنى، ويضع جميعها مواضعها، ويصفها بصفتها، ويوفر عليها حقوقها من الإعراب والإفصاح».
والبيانُ الثاني بيانٌ يريدُ أنْ يُثبِتَ أنَّ البيانَ بالكلامِ دون غيره يكونُ بالاختيار من الموجود المتجسمِ باللفظ والمحدود بالصوتِ؛ لأنَّهُ وإنْ سمّي كلامًا إلا أنّه لفظٌ واللفظُ دليلُ الكلامِ في النّفس.
فالجرجانيّ يفتتحُ الأسرار بقوله: «اعلم أن الكلام هو الذي يُعطي العلومَ منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشفُ عن صُوَرها، ويجني صنوفَ ثَمَرها، ويدلُّ على سرائرها، ويُبْرِزُ مكنون ضمائرها، وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان، ونبّه فيه على عِظَم الامتنان، فقال عزّ من قائل: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الإنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن1 - 4) فالبيانُ في هذا السياقِ هو الكلامُ، ثم قال بعد الآية: «فلولاه لم تكن لتتعدَّى فوائدُ العلمِ عالِمَه، ولا صحَّ من العاقل أن يَفْتُق عن أزاهير العقلِ كمائمه، ولتعطَّلَت قُوَى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوَتِ القضيّة في مَوْجُودَها وفانيها، نَعمْ، ولوقع الحيُّ الحسَّاس في مرتبةِ الجماد، ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيتِ القلوب مُقْفَلةً تَتَصَوَّنُ على ودائعها، والمعاني مَسْجُونَةً في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرُّفها معقولةً، والأذْهان عن سلطانها معزولةً، ولما عُرف كفرٌ من إيمان، وإساءة من إحسان، ولما ظهر فرقٌ بين مدح وتزيين، وذمّ وتهجين».
وهذا النّقل -وإنْ كان طويلاً- إلا أنّه يوقفك أمام عالمٍ في الكلام غايتُهُ أنْ يحقق لك أصل البيان البشري الذي نزل عليه التّحدّي، ويبيّن لك أنّ البيان ليس مسألةً من مسائل الأدب ورسائل البلغاء، بل هو قضيّةُ كفرٍ وإيمانٍ بما هو كلامٌ؛ لأنَّ البيان الذي عليه المدار ومن أجله ثار الغُبار هو الكلامُ، لا ذاك الذي يشيرُ إليه الجاحظُ بالحال والنَّصبة والخط وغيرها؛ فهذه ليست من التّحدّي في شيءٍ، وهذا من عبد القاهر الجرجانيّ تحريرٌ وقصرٌ للكلام على المهمّ دون خروجٍ عن الغرضِ كما هو حال الجاحظ في كتاباته وفي تشتيته لتعريف البيان عند الإمام الشافعيّ -رحمه الله.
ويذكرُ الجرجاني باب ضيم البيان بين الناس فيقول: «إلاَّ أنك لن تَرى على ذلك نوعاً من العلم قد لقيَ من الضَّيْم ما لَقِيَهُ، ومُنيَ مِنَ الحَيْف بِما مُنِيَ به، ودَخلَ على الناسِ منَ الغلَط في مَعْناهُ ما دخَلَ عليهم فيهِ، فقد سبقتْ إلى نُفوسهم اعتقاداتٌ فاسِدةٌ وظنونٌ رديَّةٌ، ورَكبهُم فيه جهلٌ عظيمٌ وخطأٌ فاحشٌ، تَرى كثيراً منهم لا يَرى له معنىً أكثرَ ممَّا يرَى للإشارةِ بالرأس والعين، وما يَجدُه لِلخط والعَقْد، يقولُ: إنَّما هو خبرٌ واستخبارٌ، وأمْر ونهيٌ، ولكلِّ مِن ذلك لفظٌ قد وُضع له، وجُعل دليلاً عليه، فكلُّ مَنْ عَرفَ أوضاعَ لغةٍ منَ اللغات، عربيةً كانت أو فارسية، وعرَفَ المغْزى من كلِّ لفظةٍ، ثم ساعدَه اللسانُ على النُّطق بها، وعلى تَأديةِ أجراسِها وحُروفِها، فهو بيِّن في تلك اللّغةِ، كاملُ الأداةِ، بالغٌ منَ البيانِ المبلغَ الذي لا مزيدَ عليه، مُنْتَه إلى الغايةِ التي لا مذهبَ بعدها»، وهذا واضحٌ في أنّه يعترض على فكرة تعريف البيان عند الجاحظ، وهو اعتراضٌ على القول بأنّ اللغة ليستُ إلا للتواصل كالذي يحدث اليوم مع أصحاب المناهج النقديّة الحديثة وأهل التداولية خاصّة؛ إذ البيان ليس أنْ تعرف الألفاظ ومعانيها، ولا النّطق بحروفها وتأدية أجراسها فتكون عندئذٍ رأسًا في البيان عند الجرجاني.
والمعنى عند الجرجاني على أنحاء: معنى النفس، ومعنى الألفاظ، ومعنى معنى الألفاظ، وهذا التقسيم مبنيٌّ على أنّ الجرجاني أشعريٌّ ينطلق من مقولات الفكر الأشعريِّ في الكلامِ النفسي، والكلام النفسيُّ عند الأشاعرة هو: معنى نفسيٌّ قائمٌ بذات الربِّ تعالى. وعندهم أنّه معنى واحدٌ لا ينقسِمُ، ولا يُسْمَعُ بل يُفهَمُ، وعندهم أنَّ الألفاظ عبارةٌ عن كلام الله تعالى.
وإذا أخذنا هذا في الاعتبار تبيَّن لنا أنَّ (المعنى) ليس هو الذي يفهمه كثيرٌ من النّقاد والمشتغلين في البلاغة من أنّه المفهوم المقصود باللفظ، ويشكِلُ على ذلك أنَّ الجرجاني يقول: «ودليلٌ آخرُ، وهو أنه لو كان القصْدُ بالنَّظم إلى اللفظِ نَفْسِه، دونَ أن يكونَ الغرضُ ترتيبَ المعاني في النَّفس، ثم النطقَ بالألفاظ على حَذْوها، لَكانَ يَنْبغي أن لا يَخْتلف حالُ اثنين في العِلْم بحُسْن النظُم أو غير الحسن فيه، لأنهما يحسبان بِتَوالي الألفاظِ في النُّطق إحساساً واحداً، ولا يَعْرِفُ أحدُهما في ذلك شيئاً يَجْهلُهُ الآخرُ»، فالمعاني جمعٌ، والكلام النفسي عند الأشاعرة معنى لا ينقسم، ولكنّ ذلك يتجلى عندما نفهم ذلك من خلال إلحاحه على فهم الشعر؛ لأنّه كلامٌ بشر، ويكفيه هنا أنْ يبين أنّ الكلام في النفس وهو المعنى القائم فيها، وعليه ترتب الألفاظ وتنطق، وليس المنطوق حينئذٍ إلا عبارة عن ذلك الكلام في النفس، ولو لم يثبتْ للجرجانيِّ أنّ الكلامَ في النفس، وأنَّ الإنسان ينطق بما قام وترتب في نفسه، ثم ينظمُ تلك الألفاظ تعليقًا لبعضها ببعض على حذو نظامها في النفس دون أنْ تكون للألفاظِ مزيّة؛ لأنّها ليست الكلام، ولأنّ الحسن فيها قد جاءها من المعنى الذي هو الكلام في النفس، لا المعنى الذي مدلول اللفظ، أو معنى المعنى الذي هو مدلول التركيب.
ومن هنا:
1- البيان بالاختيار من الموجود أو الإيجاد بالموجود الحرفيِّ هو البيانُ الذي كان يرمي إليه المعتزلة والنظمُ عندهم هو تلقائيٌّ لأنّ التراكيب وتواليها ليس بيانًا.
2- البيان بالاختيار من الموجود المتجسم باللفظ والمحدود بالصوت هو البيانُ الذي يرمي إليه الجرجانيُّ؛ لأنَّ اللفظَ دليلُ الكلامِ النّفسي، والكلامُ في النّفس جوهرٌ بلا عرض، فإذا لحقته الأعراضُ صار ألفاظًا لا سبيل إلى البيان بها إلا بتعليق بعضها ببعض حتى تفصح وتُبين عن الكلام في النفس.
هذان طريقان في التفكير البلاغيِّ الذي يبحثُ في آية الإعجاز وآلةِ البيانِ وكلاهما تفكيرٌ بلاغيٌّ كلاميٌّ بعيدٌ عن بلاغةِ الأدباء تأصيلا وإن كانا يلتبسان بها عند الخروجِ إلى الفروع.
** **
- جامعة الحدود الشمالية