د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
هذه الطُّرق والطَّبقات مؤثرة في قوَّة القول وبقاء الوهج له، فكان بذلك لأقوال المتقدِّمين سطوع وقوَّة وأثر يُفتقد مَثيله في أقوال المتأخِّرين، ولذا كان الأخذ من المتقدِّمين يتَّسم بالأصالة؛ لأنَّك تصدر من أقوال المؤسِّسين، وتأخذ من الأصول لا من الفروع.
(قيمة الكاتب والكتاب)
ذلك، وإنَّ للإمام سيبويه دَينٌ في عنق النَّحويِّين، بل في عنق كلِّ ناطق بالعربيَّة بعد عصور الاحتجاج، وكذلك له ولمَن في طبقته وشيوخه وسابقيه وعصره لأقوالهم وآرائهم مكانة ثابتة، وقيمة قيِّمة= ذلك أنَّهم فحول هذا العلم أعني علم النَّحو، وهم رجاله الأوائل الَّذين شرَّعوا أحكامه، وشيَّدوا بنيانه، وأقاموا أركانه، ودوَّن ذلك كلَّه سيبويه. وهم قد أوتوا عقولاً نشطة عبقريَّة، والزَّمان في أوَّله، والرَّوض أنف، والنَّاس في إقبال، فاهتبلوه الأمر اهتبالاً وأقبلوا إليه إقبالاً بصدق نيَّة وحسن مقصد ونبل غاية، أخذوه صادقين.. بنوا، وحددوا، وقعَّدوا، ورسموا، وشرَّعوا إلى أن غدا بنياناً عامراً وصرحاً شامخاً.
ولقد تعجَّب النَّاس من كمال ما صنع أبو بِشرٍ سيبويه في كتابه الكتاب، وذلك لكماله واكتماله وإحاطته، وأنَّ كتابه ظهر فجأةً للنَّاس ناضجاً بلا سبق مرحلة، ومن رأى في الكتاب حواراته مع الخليل وسؤالاته إيَّاه علم أنَّه تمرحل طبعيّاً؛ لأجل هذا اندرج لهم عند أهل العلم المكانة والتَّقدير، ولمقولاتهم التَّبجيل والتَّثمين، ولأحكامهم الإجلال والإقرار، لذا لم يكن سهلاً تجاوز ما قالوه وقرَّروه إلَّا بعناء وحجَّة حاجَّة، إذ لا تُتجاوَز آراؤهم بأهون قولٍ، ولا بأطرف رأي، بل يحتاط مَن يريد مخالفة قولهم احتياطاً، ويحشد لمخالفته حشوداً من الحجج والبراهين لعلَّها أن تشفع له بانتهاض المخالفة عند أهل التَّخصُّص.
(التَّقليد والتَّجديد):
كلُّ شيءٍ ذي بالٍ يكتنفه التَّقليد والتَّجديد، وهما مطلبان للعلم نفسه ولطلَّابه، ويبقى السُّؤال أيعتنقان أم يعتنفان؟ فإذا هما اصطلما واعتنفا فقد وقع العلم بين عوائق ومزالق، فتكون لصخرة التَّقليد عوائق، وتكون لعجلة التَّجديد مزالق، وإن هما التأما واعتنقا فهما مكمِّلان لبعضهما، فينطبق عليهما ما يوصف بالأصالة والمعاصرة، وملاك أمر الاعتناق أو الاعتناف قائم على أرباب كلِّ فريق منهما.
ولهما أعني التَّقليد والتَّجديد صولة على الفكر وهيمنة عليه تقييداً وتفنيداً، يظهر ذلك في مواجهة ومجابهة أيِّ رأي وارد مخالف للمعتاد أو مجاراته ومواكبته، وأكتفي بهذا ولا أطيل فيه كلاماً، إذ حديث التَّقليد والتَّجديد منكوث ومكرور.
والتَّجديد في تأثيل بنيته تفعيل من جدَّد، وهو حكم لحدث جرى يكون مقصوداً لغيره، كأن ينظر في أصل مغفول عنه، أو يطَّلع على شيء جديدٍ لم يطَّلع عليه الأوَّل، فيحدث بذلك تغييراً ويكون بذلك جدَّة، فيحكم على فعله ويوصف صنعه بالتَّجديد، أو أن يُصدَّ عن الجادَّة وينحرف بالنَّاس المسار فيجذب هو النَّاس الحائدين وينجذبون إليه وما يرومه، وكذا يثني ناهج المنهج الزَّائغ عن السَّبيل النَّهِجة غير الموصلة فإذا هو عائد ومنجذب إليه، والجميع بذلك عائد إلى جادَّة الطَّريق، فعمله ذلك موصوف بالتَّجديد، وأمَّا التَّجديد إذا كان للتَّجديد؛ أي: لذاته فهذا ليس ذا ثمرٍ نضيج.
وقصارى الرَّأي بل حُماداه أنَّه إذا كان استطلاب التَّقليد للتَّقليد فحسب دون النَّظر في الغاية والحكمة يكون هذا عائقاً لتقدُّم الفكر وتطوُّر العلم، وأيضاً إذا كان روم التَّجديد قُصيَّاه التَّجديد فحسب كان ذلك نقضاً ونقصاً، وهو مضرَّة لا مسرَّة، واهتدام للسَّابق لا بناء عليه ولا للإحاطة بما فيه، ويكون هذا الصَّنيع منزلقاً يُنزلق به الدَّاعي إليه فيما لا تحمد عقباه لكونها مجهولة المنزلَق لهذا المنزلِق، فتراه قد ترك أمسه، ويجالد في نزع يومه، وما يعلم عن غده أيثبت له أم يبقى هو بلا غدٍ ولا يومٍ ولا أمسٍ.
وهذا الأمر ينزلق بالمنزلِق جانحاً بالفكر ببهرج الجِدَّة، ومائلاً به بلا شعورٍ عن المحجَّة، ولا يغوص بجديده هذا على الدَّقائق ولا يحلِّق بالفكر للأعالي، بل تجده يعتني بالشَّكل والصُّورة، يقبع في القشور والأطراف، وينزع إلى الهوامش والحواشي.
قد قيل: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وإذا لم يُزمَّ القلم استطال حديثه، نعم؛ إنَّ الحديث في ذا الشَّأن ذو شجون وذو ذيول.
ودمتم في رعاية الله وحفظه وكلاءته معاشر القرَّاء.