د. شاهر النهاري
مما لا شك فيه أن الكائنات على وجه الأرض بأنواعها المتشابهة والمختلفة دائمة التحول والتغير بمنظور الزمن الطويل وليس اللحظي المعاش، وبتغير المكان والبيئة، وقد لاحظت ذلك كثير من الحضارات بشكل سطحي مفكك، لم يحاول أن يتعمق، وأن يبحث، وينقب، ويقارن، ويدرس عمر الأزمنة، ومنطقية التحورات، حتى يصل إلى إجابات واضحة مختبرة موثوقة.
معضلة النظرية أنها تصادمت مع المعتقدات والأديان المختلفة، فظهر في مختلف العصور، كون ثوابتها، تمنع السؤال والحث والبحث العلمي، حتى لا يتعدى الفكر حدود السائد، الذي يمسك بزمام القوة، والرؤية، والمرويات، التي تستطيع منع والوقوف ضد أي نظرية مستحدثة على مدى العصور حينما تأتي بما يخالف الثوابت.
وهذا بالطبع أمر جعل العلوم تغيب عن البلدان، والشعوب، التي سيطر عليها الفهم الأحادي غير المنفتح على العلوم، وكان رجالات الدين والكهنوت فيها، يحاربون بكل قواهم أي تحرك جديد في العلم، مهما كان معتمدا على نظريات ومقارنات وحقائق وتجارب ودراسات علمية، تؤكد العمر الزمني للأحافير، وحدوث التسلسل، وما يثبت فوقه وحوله من تغيرات في مسار تنوع النباتات والحشرات والحيوانات، وكيف أن البيئة عندما تختلف، تفرض تغيرات هيكلية في تكوين الحيوان أو النبات، وأن الفناء يزيل كثيرا من الأنواع الضعيفة المتنحية، ويهيئ الظروف لأنواع أقوى تسود وهي أكثر تأقلما وقدرة وتميزا في الخصائص، وتحورا يؤسس للفروق المستحدثة لإكمال مسار الحياة القادمة في الأجيال، التي تلي.
وقد يكون انقراض حيوان الباندا أمام أعيننا في عصرنا مثالا حيا على قرب ذلك لولا تدخل العلم، وعزل الفصيلة عن الأخطار، واستخدام التلقيح الصناعي، ونظرا للضعف وانعدام القدرة على المدافعة عن نفسه، ما جعله هدفا سانحا للصيد من جميع المخلوقات بما فيها الإنسان، ذلك الإفناء الذي يعتمد على وضوح تباين ألوانه، وضعف قدرته على القتال والاختباء.
ولو درسنا فناء حيوان الماموث قبل ردح من الزمن، وغيرها ملايين من الأنواع والأجناس، التي لم تعد توجد بيننا إلا على شكل حفريات، لعرفنا يقينا أن التطور يحدث لمقاومة الفناء.
ومن أوضح الصور للبحوث ذلك الفناء الأرضي، الذي حدث لكائنات الديناصورات، والتي هيمنت في زمنها بقوتها وضخامتها ومميزاتها من أجنحة ومخالب وذيول تفوقت بها على أغلب الكائنات فوق وجه الأرض، وكانت متطلباتها في العيش، والبعد عن اهتياج الظروف الجوية نقاط ضعف جوهرية في وجودها، وربما تصح إحدى نظريات فنائها الكامل وبشكل سريع مريع بأسباب نيزك ارتطم بالأرض أو زلزال عنيف سرع من نتيجته القاتلة ضخامة أحجامها، لتفنى وتنعدم سلالاتها، رغم بقاء شبيهات لها كانت أكثر تطورا وأصغر حجما بالقدرة على الاختباء وتمكنها من تلافي عيوب الكينونة الضخمة، والتبدل والتأقلم مثل استمرار زواحف وطيور صغيرة، مما نراه بيننا على وجه الأرض اليوم.
علماء بيئة ونبات وحيوان كانوا يتأملون ويعملون بطرقهم ونظرياتهم وقدراتهم المختلفة، وبما استطاعوا من خلاله مواجهة التعنت والهيمنة الدينية، فكان من أوائل من صرح بنظرياته البحثية الصادمة في التطور العالم الفرنسي «لامارك» المتوفى سنة 1829م، والذي أكدت دراساته الذي ضمها كتابه «فلسفة علم الحيوان» أن جميع أنواع النباتات والحيوانات، التي تتواجد في عصره قد نشأت من أصول قديمة، وأن علل اختلاف الأحياء الحاضرة عن الأحياء المنقرضة المتحجرة يحدث بتأثير العادة في الكائنات الحية والظروف وقدرتها على التأقلم، فإذا عاش الحي في وسط جديد، واعتاد عادات جديدة، فإنه لا بد أن يكتسب بذلك خصالًا تظل كامنة، حتى يرثها أبناؤه عنه، وتبرز هذه الخصال وتتجمع حتى يأتي نسل بعيد يكون فيه من الخصال والصفات البدنية والعقلية ما يجعله يخالف أسلافه القديمة لتنشأ الأنواع الجديدة تدريجيا وتسود بعد ذلك.
ثم برز العالم الإنجليزي «داروين» والذي وضع في سنة 1859م نظريته «أصل الأنواع» ليؤكد أن «تنازع البقاء» بين أفراد أي جنس من الكائنات يعتبر أكبر عامل يؤدي إلى انقراض بعض أنواعها وبقاء بعضها؛ باعتبار أن التنازع فيما بينها يؤدي إلى «انتخاب طبيعي» للأفضل والأقوى والأكثر قدرة على التأقلم بينها، وكأن الطبيعة ساحة تجارب وحث وتأكيد تمييز أو تهميش يؤدي لأحدى النتيجتين فإما التمكن والحماية والتزاوج والتناسل وتحسين الصفات في سلالات جديدة، وإما الانزياح، والضعف، وتقلص الأعداد، ومن ثم الانقراض الكامل، وترك من ينجو يصارع الظروف، ويكتب بإمكانياته قوته من عدمها.
وجاء بعد ذلك عالم الاجتماع والفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (1820-1903)، مؤيدا وشارحا لنظرية داروين في النشوء والارتقاء، حتى جعلها تشمل الهيئة الاجتماعية الإنسانية، واستخدم لتفسيرها مراحل انتقال البشرية بالتدرج من الوحشية إلى المدنية، وكيف أنها كانت دائمة التطور شأ نها في ذلك شأن النبات أو الحيوان.
وتتقدم العلوم، ويأتي زمن تطور دراسات الجيولوجيا، واستخراج الحفريات، ومقارنتها، واكتشاف عنصر «الراديوم» المشع 1898م، فيكون له الفضل في تحديد أعمار الأحافير وتبيان أن الكائنات كما نعرفها الآن لم تكن في حالة ثابتة في الشكل والقدرات على مدى ملايين السنين في العصور المنصرمة، فظلت تختلف وترتقي، أو تختفي بالفناء، وأنها ستظل تختلف في المستقبل عما هي عليه الآن تبعا لقدراتها وتغيرات الظروف من حولها.
سلالات البشر وجد منهم في الأحافير ثلاث مراحل رئيسية مفصلية تختلف في كثير من المميزات الجسدية، فكانت مرحلة «الهومو» قبل أربعة ملايين سنة، وهو الشكل البدائي للبشر والقريب من القرود العليا منحنية القامة صغيرة فراغ الجمجمة، ودون إظهار أي نوع من التطور، وحتى أنها لم تكن تسير مستقيمة، ولا تدفن موتاها، ثم تفرعت بعدها أنواع عديدة، منها (الأسترالوبيثكس غاري، الأسترالوبيثكس سيديبا، الأسترالوبيثكس أفريكانوس، والأسترالوبيثكس أفارسينسس)، على أنها أسلاف مباشرة متفرعة عن نسل الهومو تتطور شيئا فشيئا.
ثم ظهر ما سمي بالإنسان «الماهر» قبل حوالي 2.1 مليون عام، وهو الإنسان، الذي يتمكن من صنع واستخدام الأدوات البسيطة، ودفن موتاه.
ثم وجد الإنسان المنتصب القامة «هومو إركتس» وهو الذي بادر بالتطور في حياته وسكناه وملابسه واستئناسه للحيوانات والطيور، ومعرفته بالزراعة، وتكوين وترتيب التجمعات البشرية، ووضع القوانين، وهو نفسه الإنسان، الذي يعيش اليوم، وإن زادت عليه تطورات عظيمة في نوع الملابس والأدوات، التي يصنعها ويستخدمها، تبعا لترقي الدماغ، وتطور الصناعات الحديثة من اتصالات، ومركبات في البر والبحر، والفضاء الخارجي، ويضاف إلى ذلك ما يحدث في أجسامنا من وهن وتنح لبعض الأعضاء والعضلات، وقوة في بعض الخصال، وسرعة، ولماحية، وأفكار، كانت لتعد ضربا من الجنون لو عدنا لقرن واحد من الزمان فقط، وليس لآلاف السنين.
وتشير الدراسات إلى أن الإنسان الحالي لن يستمر على ما هو عليه، وأن تدخل التقنية، وعلوم الاستنساخ واللعب في جينات الأجنة، سيخلق أجناسا من البشر المستنكرين، والمختلطة أجسامهم وعقولهم بأجزاء من التقنية، وربما يكون الإنسان القادم، مسوخ على أشكال أبطال القوى الخارقة، يطيرون فيها دون معدات، ويغوصون كالحوت، ويختفون ويظهرون، بقوى تدميرية عجيبة، موازية لصفات أخرى مستحدثة ليس مثلها إلا جنون حكايات الكائنات الخفية في حكايات ألف ليلة وليلة، ونظريات المخلوقات الفضائية.