حاورته - مسعدة اليامي:
اختلاف الآراء وتباينها حول الكتاب هو مكسب له, ذلك الاختلاف سيمنحه قراءات متعددة, وتأويلات مختلفة, وتحليلات متنوعة, وجميعها ستخلق حراكاً ثقافياً حول الكتاب, وتذهب بشخصياته إلى نطاقات بعيدة, وبأفكاره إلى سماءات عالية, وبكاتبه إلى حضور أجمل. ذلك ما أكد عليه ضيف اللقاء في ردوده على محاور الحوار فإلى تفاصيل ذلك النهر المعرفي الثقافي.
* حدثنا عن عبير ونسمة الصبح مع الشعر، كتابة، وقراءة، واستماع، وهل واجهتكَ صُعوبات في تَمهيد الطريق، وكيف مهدتْ الطريق إلى أن وَجدت ذاتك الشعرية؟
- الشعر معرفة وجدانية، إذ باتحاد هذين العنصرين، الوجدان والمعرفة، يتخلق الشاعر العارف، والمعرفة هنا بوصفها ذلك الاكتشاف الروحي للأشياء وقراءتها بشكل متجدد، والوجدان بكونه تلك الجذوة المتقدة في الروح، المانحة للحب والمتلهفة له، والحب هنا بمعناه الأشمل: من حب امرأة.. إلى مناغاة طفل.. إلى مناجاة إله.
ولا يمكن الوصول إلى تلك المعرفة الوجدانية «الشعر» والدخول إليها إلا بعد رحلة طويلة، رحلة تنزف فيها الروح، لكي تكتب بنزيفها قصائدها المدهشة. فالصعوبات امتداد في رحلتي الشعرية، بدءاً من مرحلة التكوين، مرورًا بالتكامل، ووصولًا إلى الاكتمال، ولا اكتمال إلا في الومضات التي تلتمع لي فيها الأحرف الشعرية لأستدل إلى مكانها في الظلام العميم، وأخلق منها نور قصيدتي،ثم أعود بعد ذلك الانفجار والتشظي الكتابي إلى مرحلة التكوين، لأتجدد دائمًا في كل قصيدة. ولم يكن الطريق ممهدا للوصول إلى ذات الشعر، وكان يمكن أن أحيد أو أتراجع، وأحرق ما كتبته، فبين طريق الألم والأمل كنت أخطو مع الشعر قراءةً وكتابة وتأملاً ووجدًا، وفي كل خطوة أكتشف شيئا من تلك الذات، إلى أن صار من المستحيل الانفصال عنها، وصار التشظي مصحوبا باللذة، والألم ينغمر في حدائق البهجة الذاتية الشعرية.
* كيف تَتَعامل مع خير جِليس، وَكم مِن الوقْت تَمضي مَعهُ، وما أهم الدواوين الشعرية التي نهلت منها حتى تُحَقق رؤيتَك الشًعرية؟
- القراءة هي المكوّن الأول للشاعر، وللكاتب بشكل عام، وهي لا تنحصر في القراءات الشعرية فحسب، بل تتسع إلى آفاق أرحب، فمن الشعر إلى القصة إلى الرواية فالفكر والفلسفة وشتى أنواع الفنون والمعارف والآداب، وليس هنالك فضاء زمني محدد للقراءة، فقد تمتد لساعات طوال، وتقصر أحيان، ليس المهم الزمن في عملية اللقاء بالكتب، بل الأهم من ذلك أن تتحول القراءة إلى لقاءٍ بين شخصين مجهولين على مقاعد اللغة، وأن تتعمق العلاقة بينهما ومن ثَم يتحقق معنى: وخير جليس في الزمان كتاب. وفي إطار قراءاتي الشعرية، وهي كثيرة بحمد الله وتمتد عبر عصور الشعر منذ العصر الجاهلي، مع تحفظي على تلك النسبة، إلى عصرنا هذا. أذكر أنني تعلقت كثيرا بحماسة أبي تمام، وكذلك بمعلقة النابغة الذبياني، وقصائد الأعشى.. وقرأت أكثر من مرة ديوان المتنبي، والبردوني، وأمل دنقل، والسياب.
* الموهبة وحدها لا تكفي ذلك أكيد، ماذا قدمت لموهبتك الشعرية والروائية حتى تستقيم، وتكون على ما أنت تريد؟
- قرأت مرة للشاعر الكبير محمد الثبيتي -رحمه الله- مقولته هذه: التدفق اللاوعي لا يكفي لخلق قصيدة جيدة. وهذه المقولة تعتبر نبراسا في الكتابة الإبداعية، والشعرية منها بشكل خاص قد تمنحك الموهبة جواز عبور إلى مدن الإبداع، ولكنها ستقف عند محطة ما، إذا لم يرفدها وينهض بها ويدفعها جهد معرفي وقراءة متأملة وتجربة عميقة، فالتجارب والقراءات وتأملات النفس هي ما أقدمه لموهبتي حتى أكون ما أريد، التجارب الروحية والمعرفية والحياتية، كلها ستصنع لي ومني ما أصبو إليه. وتخلقني الكاتب الذي أشاء.
* صورة المرأة في القصائد الشعرية المتمثلة في الأم و الحبيبة كُنت رفيق بها، ولكن في رواية حَارسُ السًفينة جلدتها ما هي الدوافع لذلك التباين عندك ككاتب؟
لكل نصٍ ظروفه وملابساته، ومناخه الذي يستظل به ويسير فيه، وأنا ممتن لقراءتك الفاحصة وملاحظتك الدقيقة. وأرى في هذا التباين الذي أشرتِ إليه صدق التجربة، والبعد عن المُثل الجاهزة، ففي كل لحظة يعيشها الإنسان يكون على حال.
في الشعر كان الوجدان هو الرائد في الكتابة، وفي وجداني أحمل للمرأة الكثير من الحب والمشاعر الفياضة، فانسكبت تلك المشاعر في كثير من قصائدي، وقد انسكب بعضا منها في روايتي الأولى منبوذ الجبل. أما في رواية حارس السفينة فقد كان الشرط الدرامي للعمل يحيل إلى ما أسميتهِ جلداً، فكانت الجدة والزوجة وجهين لعملة رديئة وهي التنمر، ولا يخلو الواقع منهما، على أن الرواية لم تكن واقعية بحتة، بل مالت إلى ترميز الواقع في الخيال.
* ما هي المعاير التي تتبع في انتقاء عنوان الرواية و الديوان الشعري، و هل تتوقف مع الاختيار الأول أم أنك تأخذ وقت في ذلك؟
- اختيار عنوان الكتاب، لا يقل صعوبة عن النص ذاته، وكثيرا ما أرهقني ذلك الاختيار، ورحل بي إلى أكثر من جهة، ولا أتوقف عند أول عنوان يصادفني، حدث ذلك مع جلّ أعمالي، إلا مع رواية حارس السفينة، فقد انبثق العنوان قبل كتابتها، ثم تتابعت الأحداث من مخيلتي حاملة عنوانها معها. وتلك حالة نادرة، فالصراع الذي أعيشه مع العناوين قد يمتد معي إلى آخر كلمة في النص، وقد يتأخر مجيئه حتى بعد تمام الكتاب. والمعيار الوحيد الذي أتبعه وأقيم به عنوان الكتاب، هو أن يكون العنوان جزءًا من النص، لا ينفصل عنه، فأول كلمة في العنوان هي الكلمة الأولى من النص المكتوب.
* تقدس الشعر الذي تكتب و إلى أي درجة ذلك التقديس؟
- أقدس الزمن الذي أكتب فيه الشعر، ذلك زمن فائق الدهشة والروعة، وهائل الحضور والرؤية، ومن ذلك الزمن يكتسب الشعر قداسته، إنه زمن يوغل في قراءة كتاب الكون، ويقف على تخوم الوجود ليرى الحقائق الأولى صافية نقية، ويوغل في مسارب النفس، ويشف عن مكنونها. ولا يهم موضوع القصيدة ليحصل التقديس، وإنما المهم هو التجلي والكشف. هذا ما يمنح الشعر قداسته.
* قصيدة رذاذ كوني ماذا تعني لك تلك القصيدة، وهل أنت عبد الله أم أن هناك شخص آخر؟
- بين السؤال والإجابة كنت ولم أكن، أو أن أحدنا كان يسأل والآخر يجيب « الأنا والذات « أو الشاهد والغائب، وبإمكاني القول بأنني كنت أتماه مع ذاتي، وأتجرد منها، في التجرد أراها أمامي، وفي التماهي تكون داخلي، وهذان البيتان من القصيدة، وقفاً بي في مقام المكاشفة والاعتراف:
من أنت؟ عبدالله. ماذا في شمالك؟ تلك فأسي. منذ اختطفتُ قداسة الأشجار.. غنّى طيرُ حدسي.
فأنا الآخر.. وأنا عبدالله. وكل ما أوردته يصلح أن يكون جوابا لسؤالك،وقد كان اختيارك لهذه القصيدة ذكيا جدا، فهي قطب ديواني الألواح، وهذه القصيدة بالذات كانت المعراج الأعلى لروحي، والإشراقات الأسمى لنفسي.
* من هو الآخر الذي تقمصك عند كتابة رواية حارس السفينة، وهل الروائي يهيم كما الشاعر في كل واد حتى يحظى بما يرمي إليه؟
- عاشت هذه الرواية داخلي قرابة خمسة أعوام، قبل أن أخط حرفاً واحد في لوحها المكتوب، خمسة أعوام أقلّب فيها مشهد السفينة وهي تشرق من قلب الظلام، ثم عندما حانت لحظة الكتابة تدفقت فصولها وأحداثها، واكتملت في ثلاثة أشهر، وإلى هذه اللحظة لم أعرف من هو الآخر الذي تقمصني والذي خططت الإهداء له في مطلع الرواية: إلى الآخر الذي تقمصني ذات غياب وأملى عليّ هذه الحكاية ولم يكن مني سوي الكتابة... كنت أجلس إلى طاولة الكتابة ولا أحمل معي سوى رغبة غامضة، وما أن أحرك أصابعي بأول كلمة، حتى تنبثق وتنهمر الكلمات وتتدافع إلى المساحة البيضاء، ولا أتوقف إلا عند النقطة الأخيرة من الفصل الذي كتبته. هذا ما كان يحدث في كل مرة، ولذا كان يجب أن أشكر ذاك الذي تقمصني وأهديه ما كتبه بأناملي. ولا أظن بأن الهيام يقتصر على الشعر فقط، فالروائي كذلك يهيم بخيالاته، ولكنه يستحضر الواقع في هيامه، بينما الشاعر يهيم في حدوسه واكتشافاته...
* كيف تَسقي الشعر من الرواية، وتسقي الرواية من الشعر، وخاصة أن في روايتك موسيقى شعرية جميلة،و لغة صافية؟
- الشعر والرواية وأنا، ثلاثتنا ترافقنا في هذا الطريق، ومعنا سِقاء واحد، وفي كل مرة أخطو على درب الكتابة، يسقي أحدنا الآخرين، ونصعد معًا إلى تلال اللغة وجبال الفكر، ونطير في سماء المعاني. لا أشعر بأن هناك مسافة بين الشعر والرواية، كل المسافات معدومة في الداخل، وليس هناك سوى فضاء واحد تمتزج فيه أرواحنا، وترتشف كل روح من الأخرى. لذا حين أكتب رواية فإن الشعر يكتبها معي، ولكن، وهنا استثناء مهم جدا، لا أعني بالشعر هنا اللغة الشعرية أو الشاعرية، المغرقة في البديع واللحن، وإنما أعني به تلك الروح الشاعرة التي تلقي على السرد رونقها وجمالها، وتنفخ فيه من روحها، فتصبح كائنات تعيش وليس فقط كلمات تُقرأ.
* كتبت تقلبات النفس البشرية في شخصيات الرواية، هل أرهقك ذلك التعامل مع شخصيات مضطربة نفسياً؟ وهل أنت من قراء كتب التنمية البشرية،و علم النفس؟
- سررت كثيراً بهذا السؤال، كونه وقف على أهم خصائص هذه الرواية، وهي المونولوجات النفسية، والتوغل في أعماق الشخصيات. جزء كبير من أحداث الرواية كانت تحصل في داخل النفس البشرية، لتنعكس على حياتهم واختياراتهم، ومواقفهم تجاه الأشياء والأشخاص والأفكار. ولم يكن ذلك التوغل يرهقني، بل كنت أجد فيه متعتي الخاصة، وهي الغوص في الأعماق الساكنة ظاهريا، والمضطربة على الحقيقة، للوقوف على الأسباب الدافعة لأفعالنا واختياراتنا. لا السباحة على السطح والتقاط ما تلقيه النفس من انفعالات، فوراء تلك الانفعالات أحداث فاعلة لكل ما يطرأ على أسطح نفوسنا.وهذا المنحى الذي أنتحيه في أغلب كتاباتي وهو الغوص داخل النفس البشرية، أجده فطريا لدي بالدرجة الأولى وزاد من رسوخه في ذاتي قراءاتي لأعمال تحفر في العمق كروايات دوستويفسكي، والغريب لألبير كامو، والمسخ لكافكا والبومة العمياء لصادق هدايت، وبعض قراءاتي في علم النفس، وليس لكتب التنمية البشرية أي نصيب من هذا.
* كيف كتبت رواية تعتمد أحداثها على حدث واقعي، وهل وجدت في ذلك متعة عندما حلقت بخيالاتك الساردة؟
- السفينة هي أحد أبطال الرواية هي الواقع الذي طاف حوله خيالي، ثم نسجا معًا أحداث هذه الرواية وقاما ببناء شخصياتها، فكنت أراوح بين الواقع والخيال، إلى أن امتزج الاثنان، ولم يعد بالإمكان فصل أحدهما عن الآخر، وكان للوحدة والظلام دور في إثراء الخيال حول هذا الحدث.. وهنالك كنت أجد فرصتي للانطلاق، في هذا الامتزاج المليء بالمجازات والرموز والحرية والانعتاق، وطريق الخلاص، أو العبور إلى الطبيعة الأولى. في هذا العمل وجدت متعة خلق عالم من البساطة وتمثل الذات الحقيقية. عالم تُحرس فيه الآمال من الضياع والاندثار.
* عالم الجن قبل أن تتناول ذلك الخط في روايتك، هل قرأت عن الجن حتى يكون التوظيف بتلك المنطقية، أم اعتمدت على سماع الحكايات الشعبية؟
- قبل كتابة هذه الرواية وأثناء كتابتها قرأت كثيراً عن مكوناتها، السفينة، شاطئ الشعيبة، وبحرها، الطريق الساحلي، والجن كذلك، فكنت أحتشد بالقراءات والقصص الشعبية والتاريخية، لا من أجل كتابتها كما هي، بل من أجل صهرها في الداخل، ثم الخروج بمزيج معرفي حكائي خاص بي، ومن الطريف أن سألني بعض الأصدقاء وهم أولي ثقافة وعلم، من أي كتاب استقيت قصص الجان التي ضمنتها روايتك، كنت سعيدا بهذا السؤال، لأن تلك القصص والأحداث حول الجن وبحر الشعيبة والنبي سليمان كانت محض خيال، تداخلت مع أحداث تاريخية، واستطاعت إقناع القارئ المثقف بأنها منطقية وحقيقية.
* هل لك تقنيات خاصة تستخدمها عند كتابة رواياتك، وخاصة أن رواية حارس السفينة اعتمدت في المقام الأول على واقعية المكان،و الحادثة، و التخيل؟
- لكل عالم روائي تقنياته الخاصة به، بل لكل رواية كذلك، في حارس السفينة كانت الحادثة هي أحد أبطال الرواية، وحولها تطوف كل الأحداث المتتابعة، وأيضا ينبثق منها الزمن الأقدم لباقي الشخصيات، أو للشخصية الرئيسة في النص بشكل خاص. والتخيل هو طريق الحرير الذي يجمع كل أطراف وشخصيات الرواية على رصيف واحد، ويقدمهم للقارئ، بينما في روايتي الأولى منبوذ الجبل، كان المكان وهو مكة يشارك الأبطال ويقاسمهم أدوار البطولة، وكانت لحظة البداية هي ذاتها لحظة النهاية في الرواية، وهي تقنية أخرى اعتمدها، فكلما تقدم القارئ صفحة اقترب من البداية وهو يظن أنه يبتعد عنها. المكان بواقعيّته حاضر في الروايتين، ولكن الخيال بتقنياته في حارس السفينة كان حاضرا بقوة أكبر.
* كيف تفاعل جمهورك مع روايتك التي صورت لهم حادثة، نُقلت عبر الفضاء من خلال شتى قنوات العالم الافتراضي، ألا ترى أن تايتنك السعودية عنوان أكثر إثارة من حارس السفينة؟
- مجد الكتابة، وبالمعنى الحقيقي هو في قراءة الكتاب والتفاعل معه، وتداوله. وتلقي الجمهور للرواية كان مفرحا بالنسبة لي، حتى لقد ارتبطت الرواية بالمكان في أذهان بعض القرّاء، فصار لا يذكر سفينة الشعيبة وشاطئها إلا ويذكر معها حارس السفينة، وقد امتد هذا التلقي لدى البعض وقام بزيارة المنطقة ورؤية السفينة عن قرب، وتطلّع قرّاء بعيدون لمعرفة المكان شاطئًا وبحرًا وسفينة. ورأى بعض النقاد بأن هذا العمل «يستحق أن يتحول لفيلم سينمائي مع سيناريو ذكي ومخرج عبقري.. رجل واقف في الظلام الحالك أمام شاطئ وسفينة مهجورة مع غريب.. فكرة الرواية وفنيتها السردية وعمقها الفكري وقابليتها للتأويلات المتعددة تجتمع في هذه الرواية الصغيرة» والكلام هنا للشاعر والناقد الدكتور شتيوي الغيثي، كما رأت الدكتور نادية الشهراني بأن تٌحول الرواية لمنتج ثقافي إبداعي ضمن مبادرة وزارة الثقافة.أما فيما يخص العنوان، فقد ذكرت سابقا بأنه انبثق قبل كتابة الرواية، وبه تكونت الفصول والأحداث، وأجده أكثر التصاقا بالعمل، وأعمق خصوصية به وبي من تايتنك السعودية، مع أن الأخير أكثر إثارة، وهذا العنوان أطلقه أحد المخرجين في تغريدة له عبر فضاء تويتر، حين قرأ عن رواية حارس السفينة.
* عندما تكتب ماذا تضع في بالك حتى تواصل الرحلة، دون قيود النقد، والتفكير في دار النشر، وحجم المبيعات، ومتى تكون الطبعة الخامسة؟
- عندما أكتب أخرج من الواقع بكامله، وأغوص في عوالم الرواية التي أكتبها، وأعيش واقعها، يتحول الخيال لدي إلى حقيقة ملموسة، بينما يضمحل الواقع في أحداقي ويبعد.. عندما أكتب لا أضع في بالي أي اعتبار لرقيب أو ناقد أو دار نشر أو قيد اجتماعي، أو حجم مبيعات ولا حتى عدد طبعات.. عندما أكتب أفكر في أحداث الداخل فقط. وهذا هو عالمي الحقيقي. وفيه أصنع شخصياتي ثم أخرج بهم إلى الوجود. وإن لم أكتب بهذه الطريقة فلا معنى للكتابة إذن، ومتى ما وضعت الحدود والقيود فستكون الكتابة خالية من الروح.
* صور لنا النجاح في الكتابة الأدبية من وجهت نَظرك، وهل اختلاف الآراء حول النص يُعد من عناصر النجاح؟
- النجاح الأدبي يبدأ حتى قبل أن يصل الكتاب إلى أيدي القراء، حين تستنفد جهدك وتعمل عقلك وروحك في بناء مشروعك الكتابي، وتشعر بأنه يستحق أن يُقرأ، هذا الرضا الأوّليّ «وغير المكتمل» هو الوجه الأول للنجاح وهو وجه ذاتي، ثم يتبدى الوجه الثاني في تعدد قراءة الكتاب ومرافقته، وانتشاره، واقتباسه حتى كأن قارئه هو كاتبه، فيصبح القارئ كاتبا آخر للنص. وفي هذا الاتحاد يتجلى النجاح في أبهى صوره، حين يصل الكاتب الحقيقي إلى ما يبتغيه، وهو أن يصبح كتابه تعبيرا راسخا عن حياتهم وأفكارهم ونفسياتهم.
واختلاف الآراء وتباينها حول الكتاب هو مكسب له، ذلك الاختلاف سيمنحه قراءات متعددة، وتأويلات مختلفة، وتحليلات متنوعة، وجميعها ستخلق حراكا ثقافيا حول الكتاب، وتذهب بشخصياته إلى أمداء بعيدة، وبأفكاره إلى سماوات عالية، وبكاتبه إلى حضور أجمل..