«وأنا أعرف هوى الدارس، وأعلم أنه معجب بالدكتور مبارك» هذا ماضمَّنه الدكتور محمد رجب البيومي مقدمته لدراسة محمد جاد البنا بعنوان « المعارك الأدبية بين زكي مبارك ومعاصريه».
فكان الحب لزكي مبارك هو الدافع الأول لجمع مادة الكتاب! وتكتب هذه السطور لذات السبب حين يُشيّد المفكر والأديب بناءه وعلاماته، الفارقة باكرا، وينحت بإزميل أدبه طريقا مغايرا فهو مع عامة الكُتّاب لكونه يكتب فقط، ثم يكمن التمايز فيما يحدثه من امتداد الأثر وبعد الصدى، وإعادة تدوير التراث وتخليق دمائه العتيقة، بل قد يبعث خلقا جديدا بما يجلوه عن صداءة التراث، هذا عنهم، وأما لهم، فلم تسجل دواوين الأدب وأروقة الفكر بزوغ نجم مفكر أو أديب إلا وينقسم الجمهور حياله إلى فسطاطين مؤيد ومعارض، ناقم و محب، أو متعصب له وعليه، كما هي الحال مع زكي مبارك، والحقيقة أني ما إن بدأت القراءة وتقليب صفحات الكتاب حتى بدأت متلازمة الخوف من انتهائه، وكنت أود لو استفتحت عالم هذا الزكي مبارك بهذا الكتاب الكاشف عن سجيته القلقة،ولم أقتحم عالمه وهو مضطرب هائج في كتابه «رسالة الأديب».
ولا تعارض مع ما صدَّرت به هذا المقال من تشييد الأديب لبنائه فلعل الدكاترة زكي مبارك كان يبني في أثباج البحر، هذا ما كان يستدعيه الخيال قبل الإنصات إلى شيء من كتبه إذ كنت قبل القراءة له أسأل الله إحدى السلامتين، سلامة المنقلب إلى الشاطئ أو حسن الانتقال إلى ساحل آمن!!
فتارة يلقاك البحر بمسحة الحزن فتقرأ له «مدامع العشاق»، وأخرى وهو في أحسن مايكون البحر طوع الملاح انقيادا ورخاء، فتقرأ كتابه «النثر الفني» وكما يكون البحر في حنوُّه على الإنسان ومده بأعلاقه ومكنوناته فأنت تقرأ له «ليلى المريضة في العراق»،
ولكن أديب قلمه على كتفه وسمة نظراته التشازر، عاش للمعارك وإن لم تكن فلا بأس من افتعالها وخلق الأعداء، لابد وأن يخلف ركاما كما تغادر الحروب الحواضر، فاختار المؤلف المسح لأرضية معارك زكي مبارك وتدوينها في بقاعها المترامية، في ركام المجلات الأدبية والمقالات المتفرقة وفي ثنايا كتبه، مع أعلام عصره وهم الطليعة في تلك الحقبة، كطه حسين والعقاد والمازني.. الخ
ومن هنا تصبح الثيمة الأبرز في حياة زكي مبارك هي المعارك الأدبية التي أجاد الكتاب استيعابها فبدأ برسم ملامحه الشخصية ثم خصوماته الذاتية، فخصوماته الموضوعية، إلى معارك هادئة كانت تشبه المحاورات، وأحسن إذ أسند التقديم للأديب الدكتور محمد رجب البيومي مشفوعا بخبرته الطويلة بأهل الأدب ونتاجهم، فأشفق الأخير على المؤلف حين اختار مجال بحثه معارك زكي مبارك الأدبية، واستهل مقدمته بقوله: «كان زكي مبارك- رحمه الله- شعلة دائمة الاتقاد، عُرف بنشاطه الأدبي المتصل، وكانت معاركه الفكرية إحدى مميزاته، وهي التي أحدثت له دويا صاخبا بين القراء»
كيف لا يكون له دوي وقد استهل أول رسالة دكتوراة - وأقول أول إذ حصل على ثلاث شهادات دكتوراه فكان يحب أن يدعى «الدكاترة زكي مبارك « - بانتقاد حجة الإسلام الإمام الغزالي.. وأين؟! في مصر!!
بالنسبة لي لم يكن الكتاب دراسة بما تتركه هذه المفردة من رصانة علمية، بل كان لي بمثابة القراءة في سجلات الهوية، والكشف عن نفسية هذا الثائر، الثائر على عصره وأعلام عصره ثم الثائر على نفسه، ولم يفت المؤلف هذا فقد أفرد فصلاً بعنوان «معاركه مع نفسه».
ولم يكن الكتاب ممتعا لي في مادته فحسب، بل امتدت متعه، حتى أصلاني تَمنُّع الحبيب عن المُحب، فالطبعة في عام 1986م عن دار الكتاب السعودي في حكم النادر، وبقيت أبحث عنه بلا كلل وبلا جدوى، حتى صوره الكتبي البارع مزيد العصيمي واستل له معارك زكي مبارك من كتاب المعارك الأدبية في مصر للأستاذ أنور الجندي فخدم القراء وخدم ذوقه الراقي.
** **
- عبدالرحمن موالف