بعد متابعة عدة حلقات للعمل التلفزيوني (دكة العبيد) على (منصة شاهد) نجد فيه شيئاً جديداً ومختلفاً عما اعتدناه في الدراما العربية بشكل عام والسعودية بشكل خاص. فالعمل لم يكن مجرد رواية أبدع في كتابتها كاتب متمكن بهدف تقديم عمل درامي فقط، ولم يكن عملاً من وحي الواقع ولا من القصص التاريخية المعروفة والمتداولة دائماً، وإنما ذهب إلى نقطة لم تعالجها الدراما العربية على الإطلاق ألا وهي (تجارة الرقيق). حيث إن العمل يسافر بنا إلى عدة أجزاء من العالم لها ارتباط مباشر بتجارة العبيد في منطقة الخليج، فكان يرسم لنا لوحات بديعة في كيفية الظلم والآلام التي تتسبب بها هذه التجارة حتى يصل العبيد إلى منطقة الخليج. الجميل في العمل ليس في هذه النقطة فقط، بل الجميل أن كاتبة النص الأستاذة (هبة مشاري حمادة) كانت على إلمام تام واطلاع واسع بتجارة العبيد في حقبة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فكتبت العمل بخلفية ثقافية ومعلوماتية ممتازة، بل وبتجرد تام وموضوعية عالية، فتجارة العبيد تعتبر ملفا منسيا تماماً في الدراما العربية، ولم يتم تناولها بالشكل الصحيح مما جعل البعض يعتقد أنها كان نعمة وتشريعا إسلاميا حُرم منها هو وغيره بسبب المعاهدات الدولية، بينما كان واقع تلك الحقبة قائما على خطف الصغار من ذويهم والهروب بهم الى الخليج لبيعهم هناك وخصوصاً في جنوب الجزيرة العربية التي كان سكانها يخطفون الأطفال الأفريقيين ويبيعونهم على العائلات الخليجية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كان العبيد يتعرضون للتعذيب والمعاملة السيئة واللا إنسانية بسبب وبدون سبب، فكان تغريبهم عن أهلهم مأساة وكان تعذيبهم من قبل أسيادهم مأساة أخرى.
هذا الأمر غير معروف لدينا في الخليج إلا من القلة القليلة، لذلك يعتقد المتطرفون كتنظيم داعش وغيره أننا خالفنا الشريعة الإسلامية عندما حررناهم، بينما نحن في الحقيقة قمنا بتعديل الخطأ الذي وقع في أسلافنا. وقد كان البريطانيون يضغطون على الدولة العثمانية لوقف تجارة العبيد أو تحجيمها على الأقل، وكانت الدولة العثمانية تقاوم ذلك لأنها كانت بلداً إقطاعياً فقيراً يقوم على الزراعة والعبودية ولم يتطور أو يتحول للرأسمالية والصناعة كما هو حال الغرب. وكما أن تجارة العبيد كانت مهمة للعثمانيين إلا أنها مثّلت عائقاً اقتصادياً أمام اقتصاد الغرب الجديد الذي فرض على الغرب تحرير العبيد، فدافع الغرب في تحرير العبيد هو نفسه الدافع الذي يزيد أعدادهم في الدولة العثمانية ألا وهو (الاقتصاد)، ولذلك لم يكن دافع الغرب في تحرير العبيد دافعاً أخلاقياً كما يظن الكثيرين. ولأن البريطانيين كانوا يتحكمون في مفاصل الدولة العثمانية داخلياً ويدافعون عنها أمام الأخطار الفرنسية والروسية خارجياً فإنهم عقدوا اتفاقية يكون موجبها أن كل عبد أو جارية يهربون من أسيادهم ويصلون إلى القنصليات البريطانية في الخليج يحق للقنصليات إعطاءهم صكوك حرية إذا ثبت سوء معاملة قد وقعت عليهم.
هذه الأحداث التاريخية قدّمتها الأستاذة هبة حمادة بأسلوب رائع ومشوّق يصف المعاناة الحقيقية للعبيد في الخليج، ويصف جانباً من حقيقة ما كان يحدث إبان الدولة العثمانية من ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وقدمت لنا دراما خليجية سعودية حقيقية تقدّم لنا رسائل مهمة في أننا قد فعلنا العمل الصحيح بتحرير العبيد لنلتفت لحاضرنا ومستقبلنا ونتقدم للأمام بدلاً من العيش في التاريخ ومحاولة استجلابه من قبل المتطرفين أو الجاهلين وعسف الحاضر عليه بالقوة، وعندما لا يجد أولئك القدرة على جلب التاريخ للحاضر يعتقدون أنهم يتعرضون لمؤامرة كونية فيثورون في وجه الحاضر ويسمونه جهاداً ويسميه العالم إرهاباً ويتسببون في تدمير الأوطان الإسلامية بحجة الردة أو الشرك ويستبيحون دماء أبناء جلدتهم وأعراضهم وأموالهم في محاولة ساذجة لاستعادة الماضي التليد باستعادة اقتصاد تسبب يوماً في انهيار امبراطورية بحجم الدولة العثمانية. لذلك نشكر الكاتبة الرائعة هبة حمادة على هذا العمل الرائع، ولا ننسى مخرج العمل الأستاذ الأسعد الوسلاتي الذي أضاف للأحداث إثارة وتشويقاً ربطتنا بحلقات العمل وكأننا نتابع دراما عالمية، واكتملت أركان العمل بوجود نخبة من الممثلين الأكفاء يتقدمهم الممثل السعودي الأستاذ فايز بن جريس والممثلة السعودية الأستاذة العنود سعود.
نحتاج لمثل هذه الأعمال العملاقة في طرحها الذي يمثل رسالة هامة وصفت معاناة العبيد في منطقة الخليج ويضع المشاهد في تعاطف كامل مع الضحية على عكس الطرح المتطرف الذي ملأ أدمغتنا بالتعاطف مع الجلاد ورسم الضحية بأسوأ الأوصاف مثل بيت المتنبي الذي يرددونه على أسماعنا ليل نهار. شكراً لكل من شارك في هذا العمل الجبار الذي هو في الحقيقة نقلة كبيرة جداً في الدراما السعودية والخليجية ونتمنى أن نرى مثله الكثير خصوصاً أن الحركة الثقافية السعودية بدأت تسود على دعوات التطرف والجهل وكل ذلك يتماشى مع رؤية المملكة 2030، فإلى الأمام وننتظر منكم المزيد.
** **
- محمد المسمار