عندما تكون الكلمات... أنغامًا
عادة عندما ألخص لكتاب فإني أضع أهم الأفكار الرئيسية للكاتب، وأهم ما خرجت به من ملاحظات إيجابية أو سلبية، وكِدتُ أهمُ بفعل ذلك مع هذا الكتاب، ولكن الأسلوب الأدبي الرفيع الذي تميز به العطار، ونجاح المترجم في اختيار العبارات المناسبة للارتقاء مع عبارات العطار أمر يصعب تجاوزه، وجعلني أكتب عن الكتاب في مقالين مختلفين، مقالة عن أسلوب العطار، ومقالة عن أفكار الكتاب. فالعطار لا يكتب بالقلم، ولكنه يعزف نغم، نعمه يُقرأ ولا يُسمع، وأحياناً كأنه يكتب أفكاره بريشة رسام، تسيل عباراته كسيلان الوادي جمالاً، أو ذوبان الجليد هدوءً.
يقول في أحد قصص الكتاب التي تتحدث عن العشق، وهي قصة شيخ اسمه الصنعاني، عَشِقَ فتاة نصرانية ارتد بسببها عن الإسلام، فعاد إلى رشده لاحقاً وعاد إلى الإسلام وأسلمت معه الفتاة النصرانية: «عيناها فتنة العشاق، وحاجبها في الحُسن كالطاق، وإذا ألقت نظرة على أرواح العشاق سلبتهم الأرواح بغمزة من حاجبها... أما شعرها الأسود فبرقع انسدل على وجهها»، إنها موسيقى مكتوبة، وكلمات مرسومة، تقفز قلوب بسببها من الإبداع، وتنطلق العقول في خيالات هذا الوصف العذري، والعشق الصوفي، أسلوبٌ غارق في الجمال، منتشي بالدلال، إنها حالة فناء إبداعية يتوه فيها الإنسان حيرة.
وفي مكان آخر وبقصة الصنعاني، يتجلى العطار بعبارة: «بل كأنني كنتُ قد خُلِقتُ من أجل تلك الليلة»، وهو هنا يتحدث عن عشقه لتلك الفتاة، بعبارة جميلة وإبداعٍ لا يقاوم، فغريب ذلك الشعور الذي يجعلك تحس أنك خُلِقتَ من أجل ليلة واحدة تنسى فيها كل ماضيك بحلوه ومره، وكأنه ليس إلا تميداً لليلة واحدة، وكأنني بالعطار حين يكتب فهو يكتب كلمات ليست كالكلمات، إنما يكتب أنغاماً لا حروفاً، بل يكتب نوتات أو يرسم لوحات يحسبها البعض... كلمات!...
يقول في قسم آخر من الكتاب: «يا إلهي، قد تخضب قلبي بالدم، وأصبحت في حيرة كالفلك، فوجهت أقوالي إليك ليل نهار، فلا تتخل عني لحظة واحدة عن تحقيق طلبي، وأنا في جوارك دوماً... «، مناجاة عالية الذوق، رفيعة المستوى، يسكر بها القارئ لذة، ويرتفع بها متعة، كلمات تمشي بسببها بين السحاب وتلامس أطراف الغيم، مناجاة تشعر وكأن من يقرأها يكتبها.
يزداد العطار كتابة، فيتوارى الإبداع خجلاً من سحر هذا القلم، ولكن ولإن الكمال لله، فقد كان في نهاية الكتاب مثل الفارس الذي تعبت فرسه، ويريد أن يوصلها إلى بر الأمان، ولربما كان هذا حال العطار، فقد تعب القلم من كثرة الإبداع، فبدأ بالخفوت بالنهاية وكأنك تسمع أصوات أنفاس قلمه وهو يلهث من التعب جراء هذا الركض المتواصل في مروج الإبداع.
أخيراً ...
بعض الكتب تصل إلى قمة معينة لتنفجر في لحظة ما، ويبقى باقي الكتاب شظاياً لتلك اللحظة، في هذا الكتاب كانت قصة «الصنعاني» هي لحظة انفجار «بركان الإبداع»، وما تبعها من حروف ليست إلا شظايا الانفجار.
ما بعد أخيراً..
سحر وروعة البيان... لا يعني ضرورة الإيمان