أ.د.عثمان بن صالح العامر
كثيرة هي المشاهد والمقاطع التي يتناقلها الناس عبر وسائل الإعلام القديم منه والجديد خلال هذه الأيام تفرض عليك الوقوف عندها وإطالة التفكير حيالها والتبصر بأبعادها، خاصة حين متابعة أخبار الزلازل ومشاهدة الأنقاض أو حين رؤية المشردين وقراءة قصص المعذبين، وهذه النزعة الإنسانية التي جعلتني وجعلتك نتأثر بما نرى أو نسمع ونقرأ هي مغروسة في النفس البشرية ومفطور عليها ومجبول بنو آدم قاطبة مهما اختلفت دياناتهم أو تباينت أعرافهم وأجناسهم وأوطانهم إلا ما ندر وشذ والشاذ لا حكم له، ولكنها للأمانة تختلف آثارها وردود الفعل إزاءها قوة وضعفاً قصراً وطولاً جراء معطيات وأسباب عدة ليس هذا هو مقام الحديث عنها، وهذا الشعور العاطفي العميق والرحمة الجبلية الفاعلة ليست حكراً على الإنسان بل هي عند الحيوان كذلك خاصة اتجاه صغاره حين تكون الكارثة أو يحل الموت، وقد آلمني وأثر فيّ مشهد كلب وقع صغاره تحت ركام الأنقاض وبقي يحاول أن يحفر المكان ليخرجهم مما هم فيه بمساعدة رجال الإنقاذ، وكم هي فرحته عندما رآهم أحياء بعد جهد جهيد بذله المنقذون وهو يزاحمهم من أجل الظفر بصغاره أحياء. وعلى ذلك قس كثير من مشاهد الرحمة التي في الأرض سواء بين الناس بعضهم البعض نتيجة ما لديهم من نزعة إنسانية ربانية، أو من الناس للبهائم، أو بين الحيوانات مع اختلاف طبائعها.
البارحة وأنا أقلب قنوات الأخبار وأسمع أرقام التبرعات وحملات الإغاثة وجهود الإنقاذ، حاولت أن أعيد شريط شيء من هذه المشاهد التي مرت بي خلال الأسابيع الماضية، وقراءة البعد الإنساني العالمي إزاءها، وتذكرت حينها أن كل هذه الرحمات مهما عظمت في نظرنا ليست سوى رحمة واحدة من رحمات الله عز وجل، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَومَ خَلَقَها مِائَةَ رَحْمَةٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً، وأَرْسَلَ في خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً واحِدَةً، فلوْ يَعْلَمُ الكافِرُ بكُلِّ الذي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الجَنَّةِ، ولو يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بكُلِّ الذي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العَذابِ، لَمْ يَأْمَن مِنَ النَّارِ). رواه البخاري ، ويروى عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ). رواه مسلم.
ولكن شرط تحقق الرحمة المؤجلة لبني آدم رحمته بغيره، دليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ. ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ، الرَّحمُ شُجْنةٌ منَ الرَّحمنِ فمن وصلَها وصلَهُ اللَّهُ ومن قطعَها قطعَهُ اللَّهُ) رواه الترمذي.
وأحق من يرحم، وخير من تفيض عليه رحمة الإنسان الوالدان وإن علو والأولاد وإن نزلوا والزوجة وذوو الرحم والجيران والأقارب و...، فها هو رسول الله عليه الصلاة والسلام يُقبِّلُ الحَسَنَ بنَ علِيٍّ، فيقول الأقرَعُ بنُ حابِسٍ رضي الله عنه: إنَّ لي عَشَرةً مِن الوَلَدِ، ما قبَّلتُ منهم أحَدًا. ويرد عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقول: (مَن لا يَرحَمْ، لا يُرحَمْ) متفق عليه، فاللهم اجعلنا من الراحمين وارحمنا يوم الدين وإلى لقاء والسلام.