أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
الفعل في لغة العرب إحداثٌ من شيء، وكل من أحدث شيئاً فقد أحدث مفعولاً به؛ فالفعل «قَعَدَ» فعل لازم بالمعنى النحوي، ولكنه متعدّ واقعاً؛ لأن الإنسان بحركاته لإحداث هيئة القعود أحدث الهيئة على نفسه؛ فهو عامل بنفسه على نفسه؛ ولهذا كان الفعل لازم لا يتعدى صاحبه.. أما نحواً فلا يكون مفعولاً به (أي متعدياً إلى غير نفسه مباشرة) إلا بوجود معرَبٍ ظاهراً أو تقديراً يُوصف بأنه مفعول به نحواً.
وفعلٌ مثلُ «شَكَرَ» لا يتعدّى بنفسه مباشرة برسم النحو العربي إلا بقابليَّة لغويةٍ وعقلية؛ لأن صحة النحو مشروطة بالصحة للمفردات لغةً والصحة بلاغة في التركيب؛ فإذا لم يتحقق ذلك أصبح النحو صورياً برسم أهل النحو: إما لأنه لا يحقق شيئاً في الواقع، وإما لأنه يحقق شيئاً في الواقع بلغة عامية؛ فإذا قلت «رأيت هيساً» كان النحو صحيحاً، وكان الهيس مفعولاً به.. ولكنّ الهيس عامية المعنى إذا أردت هذا المعنى؛ لأنهم يريدون به في عامية وسط جزيرة العرب الرديء المنحرف، وهو في لغة العرب الفصيحة بمعنى الشجاع.. وإذا قلت «سمعتُ أذان العشاء» كانت الجملة صحيحة نحواً، ولكنها محالةٌ واقعاً وفاسدةٌ لغة؛ فالنداء؛ للصلاة أذان بغير مدّ للألف المهموزة، والآذان جمع أذن التي هي عضو من الأعضاء والأُذنَ تُري ولا تُسمع بصيغتي المعنى للمجهول؛ فالجملة محالة واقعاً، فاسدة لغة، صحيحة نحواً صورياً؛ وقد نص الزُّبيدي وغيره على عامية آذان بمد الألف المهموزة.
وكلمة «شَكَرَ» تعني في لغة العرب إظهار النعمة بالاعتقاد والقول والفعل، ويكون هذا الإظهارُ بالشكر لمسديها؛ فالشكر للنعمة لا للذات؛ وليست كلمة الشكر متعدية لمفعولين أحدهما مباشرةً والآخر بالواسطة، وهذا ما مال إليه أبو حيان وغيره وهو الصحيح.. بل هو متعدّ للنعمة مباشرة، وحرف الجر المسند إلى الذات هو مسندٌ النعمةَ والشكرَ للهِ، ولا بد لإعراب الجار والمجرور من فعلٍ مقدِّرٍ مثل كان واستقر؛ فكل ما في كلام الله بلا استثناء جاءت فيه شكر متعدية للذات بحرف الجر وهو اللام، ولم ترد البتة متعدية مباشرة إلا إلى النعمة كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (سورة النحل/ 114)؛ فهذه تعدية صريحة، وقد تجيء متعديةً مباشرة بالدلالة وَفْقَ العلامة النحوية عند النجاة في معرفة المتعدِّي، وذلك مثل قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (سورة الإسراء/ 19)؛ فالمآل شَكَرَ الله سعيَهم.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أعرف البتة كلمة صحيحة النقل عمن تقوم به الحجة وردتْ فيها كلمة شكر متعدية إلى الذات مباشرة؛ فإذا قلت شكرتُ الله وأنت تريد خصوص معنى الشكر؛ فالكلام غير صحيح لغةً وإن صح القالب النحوي.. وعلى فرض صحة التعدية مباشرة في كلامٍ نثري لأحد العلماء فهي محمولة على أمرين: إما اعتقاد معنى غير صحيح للشكر مما يرد في حشو كتب اللغة، وإما القياس على الشواهد الشعرية مع الغفلة عن معنى الضرورة في الشعر، والغفلة أيضاً عن التعامل العلمي مع تلك الشواهد؛ فمن تلك الشواهد:
و«يشكُرُ» تَشكُرْ من ضامها
و«يشكر» لله لا تُشكَرُ
قال ذلك زياد الأعجم في قبيلة «يَشكُرْ»، ومن تلك الشواهد قول أبي نُخيلة:
شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقى
وما كل من أوليته نعمةً يقضي
وقال عمرو بن لجأ التيمي:
همُ جمعوا بُؤسي ونعمى عليكمُ
فهلاَّ شكرتَ القوم إذ لم تقاتلِ
والعلماء يتعاملون مع بيوت الشعر إذا خرجت عن قاعدة النحو ومفهوم لغة العرب على أنها ضرورات ألجأت الشاعر نظماً ولا تُجرَى نثراً، ولا يُبَدَّل بها كلام العرب.. فإن وجدوا لها مخرجاً يُصَحِّحُها لغةً بأساليب المجاز العربي حملوها على هذه المعاني تفادياً للخطأ النحوي، ولم يتراجعوا عن قاعدتهم حول لزوم الفعل؛ فمن تلك القواعد حَملُ الكلام على معنى التضمين وهو أن يُضَمَّن فعلٌ متعدّ معنى فعل متعدّ، وذلك من أضعف المخارج؛ وقد طال الخوض فيه لدى أعضاء مجمع اللغة العربية في مصر، وأورد ذلك ملخصاً الأستاذ عباس حسن نهاية الجزء الثاني من كتابه النحو الوافي.. والذي أذهب إليه أنه مخرج صحيح إذا صح معنى التضمين مراداً، وهو مَخْرجٌ مانعٌ من استباحة التعدية مباشرة.. ومن تلك المخارج النص على نزع الخافض، وهو أسلوب صحيح وإن أعظم المشادّة حولَه بعض العلماء، وهو أسلوب صحيح مطَّردٌ مانعٌ من استباحة تعدية اللازم مباشرة بالمعنى، مُعرِبٌ للفعل على القالب النحوي لا على التعدية المباشرة الفاسدة .. ومن تلك المخارج حذف المفعول به حقيقةً الذي هو مضاف؛ ولهذا انتبه الزمخشري بثاقب نظره في كتابه الكشاف وفي كتابه الأساس إلى المفعول به حقيقة؛ فقال: «قد يُقال: شَكرتُ فلاناً».. يريدون نعمةَ فلان.. إلا أن هذا تخريج معنوي؛ لأنه لا نصب على حذف المضاف.. أما «شَكَرَ» خصوصاً فلا تحتاج إلى هذه المخارج؛ بل تُحمل على المجاز اللغوي باستعمال الشكر بمعنى الحمد؛ لأن الحمد قسمان لا ثالث لهما مدحٌ وشكر، والشكر يتضمن إظهار النعمة المفعولة بالتعدية مباشرة ونسبتها إلى مسديها بحرف الجر.. ومُسوِّغ هذا المخرج أن الشكر أحد معنيي الحمد؛ فأجراها مَجْرى الحمد مجازاً من جهة التعميم.. وهذا المخرج مع كل المخارج السابقة كلها مانعةٌ من تعدية اللازم مباشرة؛ وهذا المخرج الأخير لا يُسوْغُ إلا لنكتةٍ بلاغيةٍ انتقل فيها من حقيقة الشكر إلى عموم معنى الحمد مجازاً، ولولا خوف الإطالة لأفضتُ حول هذا كثيراً، ومثل ذلك محقق في السفر الأول من كتابي «مقياس المقاييس» الذي أرجو أن يرى النور قريباً، وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين