عبدالوهاب الفايز
العام الماضي، وفي مناسبة الاحتفال الأول بذكرى التأسيس الأول لبلادنا (22 فبراير)، فرحنا بحضور هذا الحدث السنوي الذي يقدم لنا الفرصة للتوسع في (استثمار التاريخ) الثري لبلادنا، الثري بتضحيات قادته وأبنائه، والثري بجهود مضنية متعبة لبناء دولة متكاملة الأركان.. بناء تصدت له أجيال ممتدة من قادة بلادنا ورجال الدولة النبلاء، وأيضًا الثري بالموروث الثقافي، وبالتنوع في الأكلات والأزياء.
والتنوع في الأزياء والأكلات لجميع مناطق بلادنا نكتشف عمقه وتنوعه من إصدارين جديدين لوزارة الثقافة ودارة الملك عبدالعزيز، ففي الإصدارين تجد تعدد الخيارات في المأكل والملبس بعكس الانطباع الذي لدينا حول فقر البيئة وانغلاق الناس وانحسار خياراتها. هذه المبادرة قدمت محتوى كنا غافلين عنه ضمن قائمة أمور عديدة نغفل عنها في تاريخ بلادنا, وهو ما يدلنا عليه الآن الاحتفال السنوي بيوم التأسيس.
فالاحتفال السنوي يأخذنا لاكتشاف الدلالات الكبيرة والعميقة، أبرزها أنه سوف يؤسس لعلاقة نوعية جديدة تضع الأجيال الحالية والقادمة في العمق الحقيقي للدولة، دولة تشكلت روحها وهويتها وعلاقتها بالأرض والناس منذ ثلاثة قرون، وهذه الأجيال المستعدة للمستقبل سوف تنظر لتاريخها بفخر وستكون أكثر اعتزازاً بالجذور الراسخة للدولة وقياداتها الكبار.
وفي الأزياء ترى تأثير الثقافات المتنوعة على التصاميم والألوان وهذا يكشف ارتباط أبناء مناطق بلادنا بالشعوب الأخرى وانفتاحهم وتسامحهم مع الثقافات والديانات، وأبناء الجزيرة العربية لهم تواصلهم التجاري مع مختلف شعوب العالم، وتاريخ التواصل الحضاري لأبناء الجزيرة العربية يعود إلى أزمنة بعيدة، وهذا العمق الحضاري أصبحنا نقف على معالمه ليس في التاريخ القريب، بل حتى في التاريخ السحيق للبشرية. وهذا ما تتوصل إليه الاكتشافات والأبحاث الأثرية والأنثروبولوجية.
وهذا الاتجاه للبحث في تاريخ الجزيرة العربية يأخذنا هنا للوقوف عند كتاب (جذور: دراسة حول التاريخ الكامل للإنسان والحضارة) للباحث الدكتور عبداللطيف العفالق الذي يستخلص من الدراسات والأبحاث أن الجزيرة العربية كانت هي المكان الأنسب مناخيًّا لنشأة الإنسان في الفترة بين 000.75 و 000.130 ق.م طبقًا إلى الدراسات المناخية. ويرى أن هذه خطوة أولى فحسب للإجابة عن السؤال: (أين؟)؛ لأن هذه الإجابة المناخية والبيئية تظل قاصرة إذا لم تُدعم بمزيد من الأدلة البيئية المناخية، والأدلة الاحفورية. وفي كتابه وقف العفالق عند الأبحاث العلمية التي (تؤكد على أن الجزيرة العربية هي المكان الأول الذي احتضن الإنسان، وكانت خير ملاذ له في العصر الجليدي حينما كان العالم كله مغطى بالجليد ويسود فيه المناخ الذي يصعب معه العيش الإنساني خاصة في هذه العصور المتقدمة البدائية للإنسان، ونجد الجزيرة العربية مهيأة لاحتضان هذا الإنسان الضعيف، ومساندة لبقائه).
وهذا التعدد في الاهتمامات والجهود لاكتشاف تاريخ الجزيرة العربية البعيد والقريب نرجو أن يتسارع ويتوسع ويجد المؤسسات ومراكز الأبحاث العلمية المتخصصة والبرامج التي تستهدف تنمية الوعي بأهمية اكتشاف مناطق القوة الحضارية والثقافية والاجتماعية للجزيرة العربية. والمملكة بما أنها صاحبة الحضور الأكبر في الجزيرة العربية يتوقف عليها مواصلة هذه الجهود الضرورية، فتكريس هوية حضارية وإنسانية راسخة وواضحة المعالم من متطلبات الحقبة التي يعيشها ومقبل عليها العالم.. حيث يبرز بقوة صراع الهويات والثقافات.
وهذا التنوع للأزياء في مناطق بلادنا المختلفة الذي نكتشفه يوفر الأرضية الثرية لنجاح مخرجات برنامج (سمو) الذي تتبناه وزارة الثقافة، ممثلة في هيئة الأزياء، حيث تتطلع إلى تطوير القطاع حسب أفضل الممارسات محليًّا ودوليًّا تحت إشراف خبراء عالميين. والهيئة لديها برنامج إرشادي (100 علامة سعودية) يختار مئة من مصممي الأزياء السعوديين للمشاركة في حزمة من البرامج التدريبية والإرشادية المتخصصة لمدة عام كامل.
والهدف (إبراز قدرة التجربة السعودية المبتكرة على المنافسة، وتوظيف مكونات الثقافة بجوانبها المجتمعية المتميزة من العادات والتقاليد في قالب إبداعي؛ لتسجيل الخطوات الأولى لـ100 علامة تجارية سعودية في عالم الأزياء العالمية). وتسعى الهيئة إلى دعم المصممين (لإبراز الثقافة والهوية السعودية مستندة على التاريخ والموروث والتنوُّع المثري والمدهش، التي تحظى به المملكة).
وهذا التنوع أيضًا تستهدفه (هيئة فنون الطهي) التي تسعى إلى التعريف بالأطباق السعودية محليًّا وعالميًّا، وترسيخ الاعتزاز بتراث فنون الطهي والمواهب في هذا القطاع، وأطلقت الهيئة مبادرة (إرث مطبخنا)، التي تُعنى بتشجيع الطهاة المبتدئين والمحترفين وتحفيزهم على حفظ وتوثيق الوصفات السعودية من جميع مناطق المملكة لنشرها في كتاب واحد.
كل هذه الجهود للتوسع في المنتجات الثقافية والحرفية وبناء مكونات المطبخ السعودي سوف يكون لها آثارها الإيجابية الاقتصادية عبر فتح فرص العمل والتجارة لأبنائنا وبناتنا، والثقافية عبر توفير مادة متنوعة في المحتوى الثقافي والفني حتى تساعد في جهود الدبلوماسية العامة لبلادنا، فالأزياء والأكلات والفنون والحرف والموسيقى توفر لغة جذابة وفعالة في التواصل الثقافي بين الشعوب.
كل عام.. الاحتفال بيوم التأسيس يقدم الفرصة لكي نتسابق إلى اكتشاف الجديد المفرح في تاريخ بلادنا، وتاريخ الجزيرة العربية. لذا، من اليوم استعدوا للعام القادم.