د. إبراهيم بن جلال فضلون
لحظة تاريخية فاصلة: تعارف عليها المؤرخون وتجاذب التاريخ حول أسطُرهِ، مُلبياً ذاكرة كل أمة (memory of the nation)، لما كان ولما هو جديد بقراءة أحداث التاريخ وتحليلها معرفياً، مُنذ بداية مشروع التوحيد، ولملمة شتاته، حول هدف وراية واحدة قام بها البُناة من آل سعود، على مدى ثلاثة قرون، نقشت ملامح عزنا وفخرنا، من أول لحظة حط أجدادنا رحالهم.. من سياسات الغنيمة إلى التفكير في الاستقرار، بقيادة الإمام محمد بن سعود وقيام الدولة السعودية الأولى في منتصف عام 1139هـ الموافق لشهر فبراير من عام 1727م... والتطلع إلى مآلات تحول اقتصاد الحاضرة القائم على الزراعة والتجارة والقوافل المحمية بالسلطة الجديدة، كتجربة جديرة بالانضمام إليها في سُلطة مركزية تنطلق من الدرعية.. مصداقاً لقول شاعرنا مصطفى صادق الرافعي:
بلادي هواها في لساني وفي دمي
يمجدُها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خيرَ فيمن لا يحبُّ بلادَهُ
ولا في حليفِ الحب إن لم يتيم
بناء الهوية الوطنية: لقد كُتبت حكاية المملكة العظيمة، وسطّر التاريخ قصةً واقعية تُروى كإحدى أهم أدوات بناء الهوية الوطنية، لرجال يمتلكون إيماناً وعزيمة وجلَداً وحنكة وحكمةً حول الراية السعودية، نعيشها واقعاً طوال حياتنا، وتدوم لمن يأتي بعدنا، بيوم التأسيس الذي صدر الإعلان عنه الأمر السامي من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ليصبح لحظة تاريخية فاصلة، نعتبر بها كل عام من شهر فبراير يومه الثاني والعشرين، وجعلهِ إجازة رسمية، تؤكدُ أن الملك سلمان المؤرخ هو أيقونة تاريخ الجزيرة العربية يعيها كلُ من استمع له أو جالسه أو قرأ ما كتبه، فما يرفع الأوطانَ إلا رجالها وهل يترقى الناسُ إلا بسلم.. (الرافعي).
نشأة في ظل التأسيس: إنه القارئ النابه، صاحب الثروة المعرفية بمكتبة بيته، حاوية بأركانها أكثر من 60 ألف مجلد، وأكثر من 18 ألف عنوان، لازمته منذ ولادته التي جاءت بعد توحيد الدولة السعودية، بثلاث سنوات فقط، لينشأ -أطال الله عمره- في ظل هذا الحدث التاريخي... ملكاً إنسانياً وملكاً للحزم والعزم مدركاً، فيقول زين العابدين الركابي في كتابه عن الملك سلمان: «إذا تحدّثت معه في موضوعٍ ما، فلا تكاد تنطق بالعبارة الأولى، حتى يدرك ما تريد ويستفيض فيه، وكأنه قد أعد العدة له من قبل، سواء أكان الموضوع سياسياً أم اجتماعياً أم إعلامياً أم ثقافياً»؛ لتنعكس بصورها على الدولة السعودية الجديدة سياسياً، وتعاملها مع الأفكار والتحولات الوطنية الحديثة من خلال رؤية خلابة طموحة، لولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، 2030 وعدم الاعتماد على دفة السياسة النفطية بما يحقق استقرار الاقتصاد العالمي وجودة الحياة للمواطن السعودي، والانفتاح والمشاركة مع العالم المتقدم دون المساس بمبادئ وثوابت الدولة السعودية، مُمسكاً بجمر قضايا التحديث والتطوير والإصلاح التي قلمت أظافر الفاسدين والمُتشددين من المتطرفين، ودحرت الإرهاب خارج حدودنا بل والحدود العربية التي برزت منذ حرب الخليج وثمانينيات القرن مع تضخم جماعات الإسلام السياسي وحتى «القاعدة» وأخواتها..
ملحمة إنجازات: من نعم الله على المملكة أنْ قيّض الله لها اليوم راعياً على صورة أبيه، عزم وحزم وإيمان بالمستقبل واستشراف واحد، لا يهاب الصعاب ولا ترهبه التحديات، إذا عزم توكّل، وإذا اقتنع قرّر فكانت المشاريع العملاقة بكل مكان تتقاطر في سلاسل الحضارة السعودية الجديدة، وإذا استغاثه جار لبّى النداء (اليمن ولبنان وفلسطين وليبيا والسودان والعراق ومصر وآخرهم سوريا وتركيا في فاجعتهما بالزلازل)، وإذا حاق بوطنه خطر تقدّم بثبات وقوّة وحزم ضارباً الإرهاب في معاقله، ومتحدياً تحديات العالم، مُتخذاً من التفاف شعبه حوله قوة، تتحول من معركة بناء وتحديث إلى ملحمة إنجاز تتواصل من جيل إلى جيل.. كللت مكانة المملكة دولياً فقادت العالم بمجموعة العشرين بأحلك أيام كوفيد 19، وحافظت على توازن السوق النفطي لاسيما بعد الغزوة الروسية لجارتها أوكرانيا، دون الالتفات أو الرضوخ لمطالب أي دولة أو قوة، ليأتيها العالم بشركاته الإقليمية واستثماراته الجمة، حتي صارت مدن المملكة أرضاً خصبة لاستضافة قمم الكبار والعالم في الرياض وجدة وغيرهما ساعياً لطموحاتنا التي تبلغ عنان السماء.. ليستحق يومنا أن نرفع فيه الهامات فخراً واعتزازاً بأمجاد وطننا العظيم لنُظهر فيه ثقافتنا وهويتنا الأصيلة للعالم بعمق تاريخي وقيم وطنية أصيلة، تملؤها قُلوبنا حُبًا ووفاءً، شكّل التأسيس ركيزة لتحولات كبرى في تاريخ الجزيرة العربية، تجذّرت لدعائم دولة متينة ومبادئ عظيمة راسخة ورؤية واضحة تحت قيادة رائدة حكيمة تستحق كلمات الشاعر عبد المحسن الكاظمي:
ومن لم تكنْ أوطانهُ مفخراً لهُ
فليس له في موطنِ المجدِ مفخرُ
ومن لم يبنْ في قومهِ ناصحا لهم
فما هو إِلا خائنٌ يتسترُ
وَمن كانَ في أوطانهِ حاميا لها
فذكراهُ مسكٌ في الأنامِ وعنبرُ
ومن لم يكنْ من دونِ أوطانهِ حمى
فذاك جبانٌ بل أَخَسُّ وأحقرُ
ذوو الهِممِ: إن كاشفي الحقائق لم يدركوا خُمس حضارتنا، ولم ولن يستطيعوا التنبؤ بقادم الأيام، كوننا أبناء الصحراء الشاسعة، شيمنا الصبر والصمود، وشاحنا علمُ أخضر، يُكلل به «يوم التأسيس»، الذي أعاد تاريخنا لتجربة وطن تشكل بتضحيات كبرى، مُؤكدين قول سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله -، بقوله: «طموحنا أن نبني وطناً أكثر ازدهاراً، يجد فيه كل مواطن ما يتمناه، فمستقبل وطننا الذي نبنيه معاً لن نقبل إلا أن نجعله في مقدمة دول العالم»، فطريق التاريخ صعبُ السير فيه إلا لذوي الهمم؛ فتحية إكبار لشعب المملكة العربية السعودية وخادم الحرمين الشريفين وحكومته الرشيدة وقادتها، ومرابطينا على الحدود وشهدائنا وذويهم وكل الوطن غائب عنا أو معنا بخير، فلطرائق المجد والتقدم والريادة دائماً، سعودي يُنشدُ قول أبو الحسن علي بن العباس بن جريج (جورجيس) الرومي:
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
عَهِدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً
كنِعْمَةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا
فقد ألِفتْهُ النفسُ حتَّى كأنه
لها جسدٌ إنْ بانَ غودِرْتُ هالكا