تحت شمس الصحراء المحرقة.. وفي جوها اللافح. في البيئة التي ينشأ فيها الرجال أشداء أقوياء. في المجتمع الذي لا يعتز إلا بالفتوة (القوة) والجرأة والإقدام..
على الأرض التي يقتحم أهلها المخاطر.. ويصنعون البطولات. ولد هذا البطل أحد أشرف الرجال، والأبطال المعدودين. رجل صار من أعظم الفرسان الأقوياء الأشداء الذين يقهرون الأعداء.
لقد كان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- مكافحًا وكان يعمل بكل ما أوتي من قوة، كان يبحث دائمًا عن كل ما يجعل أهله في سعادة وراحة، كان لا يألو جهدًا ولا تستكين له حياة ولا يهنأ له بال، وأهله يحتاجون شيئًا لا يستطيعون حوزه حتى يأتيهم به وبأكثر منه، كان -رحمه الله- وثيق الصلة بربه، يدعوه بيقين المؤمن، فتنفرج الصعاب، وتتحقق المعجزات، كان يحمل همَّ قومه، ولا يقبل بدنو حياتهم، يهب لنصرة ضعافهم، ويؤيد الحق فيهم، ويبطش بالباطل والظالم دون اكتراث، كانت حياتهم في الصحراء والبوادي مشتتين, بين الأودية والجبال الصماء، كأنهم يتعايشون مع مجتمع صلب صامت.
كان موحد المملكة يسبح في عالم من الأفكار لفترة ليست بالوجيزة كلما مرت قافلة تحمل الغذاء والملابس وتذهب لرفاهية شعوبها، ويرى عندهم من مظاهر الحضارة والتقدم ما ليس موجودًا لدينا، كان يغار على قومه، يريد لهم كل الخير الموجود في هذا الكون، فنحن أهل الخير والكرم والجود، لكن الحياة مدبرة عنا، مقبلة على غيرنا، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تعتدل فيه كِفة الميزان وكان واثقًا من ذلك.
وكان صبورًا مُجاهدًا في نُصرة الحق. يحمل على عاتقه هموم قومه، ولا يلتفت لراحته الشخصية.
رأى أنه لا عز ولا رخاء ما دامت هناك فُرقة وتشرذم، فوجد أن السبيل الأول هو الوحدة وتوحيد الأرض تحت راية واحدة وحكم واحد، ووجود قانون واحد يحكم بين الجميع بدلًا من الحكم القبلي والنزعة الشخصية والعصبية القبلية، فكان له ما أراد، بعد عناء وجهد يطاول السحاب، ومجابهة الخصوم والأعداء، ووقوف رجال أشداء لا يقبلون في الحق لومة لائم، فتوحدت الأرض، وعمَّ السلام، وكان الشعار كلمة التوحيد للهوية الإسلامية، والسيف لتحقيق العدل.
وكأن الله تعالى اختار لأمر هذه البلاد رجالاً مخلصين، لا يعصون الله ما أمرهم، ويحملون آمال وطموحات أهلهم بكل حب وفخر واعتزاز، حتى جاءت اللحظة التي كان موقنًا بها بعد دعوات وتهجدات، وأسرار بينه وبين ربه، جاءته البشرى في منامه بخير وفير، يتفجر من باطن الأرض، فقام وأفاق، وأدرك يقينًا أن هذا ليس مجرد حلم أو كابوس، وإنما هي بشرى له ولقومه. نعم كانت بشرى، وكانت حقيقة وظهرت لنا خيرات الأرض، وفتحت لنا كنوزها بفضل من الله تعالى.
وحانت لحظة الفراق، بعد أن اطمأن على مستقبل قومه، وبعد أن تغيرت حياتهم، وبدأت المباني الراقية في الظهور، وكانت وصيته المحافظة على النعمة، وصونها، والوقوف إلى جانب الحق والعدل، حتى لا تزول نعم الله، وكأني أراه مبتسمًا وهو يودعنا وعيناه مملوءتان بكل حب وفخر وسعادة بما منَّ الله به علينا.
حمل لواء أمته من بعد الملك عبدالعزيز الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله رحمهم الله، ثم سلمان الملك السابع حفظه الله الذي حمل على عاتقه وضع هموم ومشاكل قومه، وسار على الدرب، ولكن هنا تحدث المفارقة؛ لأن الأوضاع تتحسن لدينا، وصرنا في ازدهار عمن يجاورنا، ولكن هنا تأتي النخوة والفزعة بالوقوف سندًا وعونًا لجيراننا ومساعدتهم ماديًا ومعنويًا ومحاربة من يحاربهم، بل إن عروبتنا وإسلامنا حتماً علينا منع الزاد والزواد عن أعدائهم نصرة لهم، وبالفعل تحقق النصر، وأثبتنا أننا يدًا واحدة، وعصًا شديدة الوقع على أعدائنا.
استكملت مسيرة البناء والهدف رفعة الوطن وعلو رايته وتنشئة شبابه على حب الوطن والتضحية من أجله، فبدأ عهد الازدهار الحديث، وظهرت لدينا أرقى المدارس والمستشفيات والجامعات والمصانع العملاقة، وصار موطني مقصد العالم أجمع، أووووه ما هذا ماذا كنا؟! وأين صرنا؟! حينما أتجول بسيارتي أتنفس عبق الماضي وازدهار الحاضر.
نعم آثار قديمة، وتراث عظيم، وتقدم حديث في شتى المجالات، هذه هي الحضارة الحقيقية، أي ازدهار نحن فيه!، ليس هذا استفهام ولكنه تعجب للحال العظيمة التي آل إليها حالنا بعد معاناة من أجل أن نحيا نحن المواطنون هذه اللحظات بهذه الهيأة وهذا الرخاء.
وفي ليلة مظلمة ماطرة، كان الجو باردًا في ليلة من ليالي الشتاء العاصفة، وبينما أنا أسير مستمتعًا بهذه الأجواء التي تستهويني تطرقت إلى أذني بعض الكلمات التي أثارت إعجابي، حيث كان الحوار التالي:
(الأم: يا ابنتي العزيزة، كلمة الوطن تحمل الكثير من المعاني أهمها أنه الأرض نولد عليها، ونكبر فيها، وندرس بها، ونأكل من طعامها ونشرب من مائها، هذا إلى جانب أن نلتزم بالعادات والتقاليد الصحيحة التي نتربى عليها، وتنفيذ القوانين التي يقرها علينا.
الابنة: يا أمي عندكِ حق، فالوطن كلمة لها معاني جميلة، ولكن هل لكِ أن تخبريني كيف تكون أهمية الوطن بالنسبة لنا؟
الأم: للوطن أهمية كبيرة ومكانة عالية أيضاً لأنه المكان الذي نعيش داخل حدوده، ونحتمي فيه، كما أنه من أكثر الأماكن التي تشعرك بالراحة والأمان، والأرض التي تستقبلك في كل وقت أينما ذهبت ورجعت إليها، هذا إلى جانب أن هو من يكسبك الهوية والثقافة والحضارة والتاريخ، الذي يجعلك تتكلمين بكل فخر، وتقولين إلى هذا الوطن أن أنتمي.
الابنة: يا أمي ما هذا الكلام الجميل الذي تتحدثين به عن الوطن، ومع ذلك أريد أن أعرف ما هو حق الوطن علينا؟
الأم: يا ابنتي، يوجد للوطن الكثير من الحقوق علينا، فهو الأرض الكبيرة التي نعيش عليها ومن خيرها، ويجب أن تعرفي أن أول حق له علينا هو أن ندافع عنه ضد أي قوة خارجية تريد أن تسلبه منا، وترفعي عنه ظلم الأيدي التي تريد أن تنتزعه منك مهما كان الثمن، هذا بالإضافة إلى الاهتمام بالعلم والعمل من أجل بناء الوطن والنهوض والارتقاء به.
يا بنيتي، الواجب الأهم الذي يقع عليكِ تجاه وطنك هو أن تحافظي عليه وتحميه بالروح والمال، ولكن هذا ليس كافياً، حيث يجب عليك أن تعملي وتبني فيه، ولابد أيضاً أن تبذل مجهوداً كبيراً كي تجعله في مصاف الأوطان المتقدمة، لأن الحفاظ على مكانة الوطن فرض على كل مواطن يعيش فيه.
حينها اطمأن قلبي، وعلمت أننا في بلد مصان معصومة بفضل فهم أبنائها الرسالة جيداً وترجمتها لواقع عملي.
** **
- الجازي حمدان العتيبي