إن المطلع على حالة وسط الجزيرة العربية طوال الألف سنة التي سبقت تأسيس الدولة السعودية الأولى، ليعلم مدى المعاناة التي عانتها بسبب إهمال دولة الخلافة في الشام والعراق، مما أدى إلى تفكك سياسي قل نظيره، فبلغ الشقاق بين الناس إلى أن انقسمت بعض البلدان النجدية إلى أربعة أحياء متناحرة، وعُدِم الأمن حتى عجز الناس عن الانتقال بين البلدات المتجاورة، وضعف النشاط الاقتصادي حتى جاع الناس وهلكوا في بعض البدان. فالمطلع على حجم النقلة العظيمة التي أحدثها الإمام محمد بن سعود في المنطقة بعد تأسيس الدولة السعودية الأولى في عام 1139هـ/ 1727م سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً، يتبين له بكل وضوح أنه هذا المنجز الذي تمثل في تأسيس الدولة لم يكن لينجح لولا إرادة الله عز وجل ثم وجود شخصية استثنائية كالإمام محمد بن سعود، فما هي أوجه الاستثناء في شخصية الإمام محمد بن سعود.
ولد الأمير محمد بن سعود في عام 1090هـ/ 1679م(1) في بيت إمارة، وبالتالي فقد نشأ في بيئةٍ سياسية تعلم فيها أصول السياسة وإدارة الحكم منذ الصغر، إلا أنه هذه البيئة لم تكن بيئةً صحيةً على الدوام، حيث عانت الدرعية -كحال بقية البلدات النجدية- من عدم استقرار الحكم، فكان المنتمون إلى بيت الإمارة في معظم الإمارات النجدية يتنازعون على الحكم باستمرار. لكن شخصية الإمام محمد بن سعود الاستثنائية كانت على قناعةٍ تامةٍ بأن بيت الإمارة يحتاج إلى إصلاحٍ ضروري من الداخل من خلال القضاء على هذه النزاعات وإحلال الاستقرار السياسي، الذي سينعكس -بطبيعة الحال- على استقرار السكان، ومن ثم ازدهار التجارة، وهذا هو الوضع الطبيعي في أي كيانٍ سياسي. وبالفعل عمل الأمير محمد بن سعود منذ مرحلة شبابه على ذلك، حين تدخل لحل النزاع بين عمه الأمير مقرن بن محمد بن مقرن والأمير زيد بن مرخان بن وطبان، حيث اتفق أهل الحل والعقد على تولية الأمير زيد بعد وفاة الأمير سعود بن محمد بن مقرن -والد الإمام محمد- لكونه الأكبر سناً، لكن الأمير مقرن لم يرضَ بذلك، فانتزع الإمارة وحاول التخلص من زيد، فتدخل الأمير محمد بن سعود وأعاد الأمور إلى نصابها(2). رغم أن عمه مقرن كان أقرب إليه من زيد بن مرخان، إلا أن الأمير محمد وضع استقرار الأمور هدفاً أسمى. ورغم أن الأمير محمد كان صاحب اليد العليا في النزاع بين عمه مقرن وزيد بن مرخان، وبالتالي كان بمقدوره أن يزيح الاثنين وينفرد بالإمارة، إلا أن مبدأه القائم على بسط الأمن وإرساء أسس الاستقرار كان أهم بالنسبة له من الطمع بالإمارة، فأعادها إلى صاحب الحق فيها ولم يمد يده إليها. وهذه الأحداث تبين مكانة الأمير محمد بين أبناء الإمارة منذ أن كان شاباً، مما يدل على أنه كان استثناءً بين أقرانه من حيث اتصافه بصفات الزعامة والقيادة منذ وقتٍ مبكر. كما أن فعله هذا يثبت بأنه لا يرضى أبداً بالظلم ولا يسكت عنه، وأنه ينصف المظلوم ولو تسبب ذلك بإلحاق الضرر بنفسه.
وحين وصل الإمام محمد بن سعود إلى الحكم في عام 1139هـ/ 1727م نجح سريعاً في بسط الأمن في الدرعية، وهذا الأمر لم يكن ليتأتى له لو لم يكن قد أمضى سنوات من عمره منذ ما قبل وصوله إلى الحكم لتحقيق هذا الهدف. وبعد أن تحققت له هذه الغاية في الدرعية بدأ بمحاولة بسط الأمن والاستقرار في المنطقة المحيطة بالدرعية أيضاً، فتدخل في عام 1151هـ/ 1738م لتهدئة الأمور في الرياض، حيث حدثت بعض الخلافات بين أميرها دهام بن دواس ومنافسيه، فأعاد الإمام محمد الأمور إلى نصابها(3). ومرةً أخرى، كان الإمام محمد هو صاحب اليد العليا بين المتنازعين في الرياض إلا أنه لم يمد يده إلى الحكم، وإنما آثر الإصلاح وتهدئة الأوضاع.
ورغم أن قوة الدرعية في بداية عهد الإمام محمد بن سعود لا تقارن أبداً بقوة الكيانات السياسية في الأحساء والحجاز، إلا أن شخصية الإمام محمد أظهرت منذ الوهلة الأولى بكل وضوح أنها لا تقبل الإملاءات ولا تخضع للتهديدات. فكانت نتيجة ذلك أن اعتبر الكثيرون من المهددين من قبل القوى المحيطة الإمام محمد بن سعود الركن الشديد الذي يأمن عنده الخائف. وبالتالي فتحت الدرعية أبوابها لمن لم يأمن على نفسه، وهاجر إليها كثير من الناس؛ ولعل أبرز هؤلاء المهاجرين كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان تحت تهديد حاكم الأحساء حين كان مقيماً في العيينة.
ولئن كانت شخصية الإمام محمد بن سعود شخصيةً عزيزةً أبيةً مع المنافسين، إلا أنها هينةً لينةً مع عموم الناس، خاصةً وأن الناس في ذلك الزمان يغلب عليهم الفقر والحاجة، فكان قريباً منهم، يسمع إلى هذا، ويواسي هذا، ويعين ذاك. ولعل من القصص التي تبين قرب الإمام محمد من رعيته أن رجلاً من العقيلات(4) كان يأخذ أموال الناس بضاعةً(5) فيتاجر بها في البلدان المجاورة ثم إذا عاد أعاد للناس أموالهم وما تحقق لهم من أرباح وأخذ نصيبه منها. وفي سنةٍ من السنوات جمع من الناس أموالاً طائلةً تبلغ أربعة آلاف ريال ثم خرج بقافلةٍ كبيرةٍ يرجو أن تعود عليه وعلى من ساهموا معه بتلك التجارة بالربح الوفير، لكن دورة الزمن دارت عليه فخسر جميع أمواله ولم يرجع منها بشيء. أتاه الناس يريدون أموالهم، فضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأعجزته الحيل. فأشار عليه أحد الناصحين بان يخرج من بريدة ويتوجه إلى الدرعية، ويشكو ما ألمّ به إلى الإمام محمد بن سعود لعله أن يدينه مبلغاً يستطيع به أن يعود إلى التجارة ويتمكن من سداد ديونه شيئاً فشيئاً. فأخذ الرجل بالنصيحة، ونزل ضيفاً عند الإمام حين وصل إلى الدرعية، ولما حانت الفرصة المناسبة شكا الرجل مصيبته إلى ولي الأمر، ولم يكن الإمام محمد يعرف الرجل وإنما يسمع عنه أنه من كبار العقيلات، فلم يكن من الإمام إلا أن أمر للعقيلي بأربعة آلاف ريال ليسدد بها ديونه ويعود إلى تجارته. ذهل الرجل، وذهل الحاضرون، وحاول بعضهم أن يثني الإمام عن ذلك بحجة أنه لا يعرف الرجل، إلا أن الإمام لم يلتفت لهم، ولسان حاله يقول: «ارحموا عزيز قومٍ ذل»(6).
كما تظهر شخصية الإمام محمد بن سعود في المظاهر الحضارية التي ميزت الدرعية عن غيرها، فقد أخذ على عاتقه تغيير وجه المنطقة من خلال الدرعية. فمن الناحية العلمية، فتح الإمام محمد أبواب الدرعية للعلماء وطلبة العلم، حتى أصبحت قبلةً لأهل العلم، وأضحت مساجدها جامعات علمية إذا ما قورنت بالحالة العلمية في المنطقة، وتسابق الكبار والصغار على التعلم. فازدهرت في الدرعية صناعة الأحبار وأدوات التعلم، وخُطت المخطوطات فيها، وتنافس خطاطوها في تزيين كتاباتهم بالأشكال الهندسية والرسوم النباتية، حتى غدا للدرعية خطٌ يميزها عن غيرها. ومن الناحية الاقتصادية، نشطت التجارة في الدرعية، فنعم سكانها بالرفاه، وقصدها التجار من داخل الجزيرة العربية وخارجها. ومن الناحية العمرانية، شرع الإمام محمد بن سعود ببناء مدينةٍ محصنةٍ تستعصي على الأعداء. وفي نفس الوقت، لم يغفل بناؤو الدرعية المهرة النواحي الجمالية في الهندسة المعمارية. فلما اكتمل بناء تلك التحفة الطينية، ظهرت بحق كجوهرةٍ وسط الصحراء، ولا يزال زائر الدرعية اليوم يرى ذلك بأم عينه.
ولا شك أن رجلاً تجتمع فيه كل تلك الصفات ليعد رجلاً استثنائياً، وبالتالي فإن المنجزات الاستثنائية أيضاً لا تتحقق إلا على يد أناسٍ استثنائيين، وكذلك كان الإمام محمد بن سعود استثناءً في شخصه حين نجح بإصلاح بيت الإمارة في الدرعية من الداخل أولاً، ثم عمل على إصلاح الأوضاع السياسية في المنطقة ثانياً، ثم تفرغ لمراعاة أحوال رعاياه ثالثاً. كما كان استثنائياً في المنجزات التي تحققت على يديه، حيث أمَّن الدرعية، فلم يفارق الحياة في عام 1179هـ/ 1765م إلا بعد أن رأى الدرعية مدينةً مرهوبة الجانب عسكرياً، محكمة البناء عمرانياً، مستقرة اقتصادياً، مزدهرة علمياً.
الهوامش
(1) كتيب يوم التأسيس 1139هـ/ 1727م، دارة الملك عبد العزيز، 1443هـ/ 2022م، ص36.
(2) عبد الرحمن بن علي العريني: الإمام محمد بن سعود وجهوده في تأسيس الدولة السعودية الأولى، الرياض، الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، 1419هـ/ 1999م، ص50.
(3) محمد بن عمر الفاخري: تاريخ الفاخري، ت عبد الله بن يوسف الشبل، الرياض، الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، 1419هـ، 1999م، ص104.
(4) العقيلات -أو عقيل- هم تجار من بريدة -غالباً- اشتهروا بتصدير الإبل والخيل والغنم إلى العراق والشام ومصر. وربما صدروا أيضاً المنتجات الحيوانية كالسمن والإقط، والمنتجات الزراعية كالتمر والقمح إلى البلدان المشار إليها وإلى الكويت والحجاز.
(5) البضاعة هي مبلغ من المال يأخذه العقيلات من الناس ليتاجروا به في البلدان التي يقصدونها، ويكون للعقيلي غالباً الثلثين من الربح مقابل كده وتعبه، ويكون الثلث لصاحب رأس المال.
** **
منصور بن سليمان الشريدة - قسم التاريخ - جامعة الملك سعود