د. خالد عبدالله الخميس
حكى لي معالج نفسي قصة موقف طريف مع أحد مراجعيه، قال: كان أحد المراجعين قبل أن يزورني في العيادة كان دائماً ما يقلب في صفحات النت باحثاً عن علاج ومخرج لمعاناته، وقد استغرق في ذلك فترة طويلة في القراءة والتجريب على نفسه لأشكال وصنوف عدة من الإرشادات والخطط العلاجية، وفي كل محاولة من محاولاته يظن أنه وقع على الوصفة السحرية التي ستخرجه من أزمته، إلا أنه بعدما يجربها فترة قصيرة إلا ويصاب بخيبة أمل من عدم جدوى تلك الوصفة، ثم يبحث عن وصفة أخرى.
ومن طريف ما ذكر أن إحدى الوصفات التي وقع عليها كانت سهلة وبسيطة وملخصها يأتي في النقاط التالية: أولاً عليك أن تحصر المشكلات الصعبة والمواقف المزعجة التي تظن أنها أثرت عليك وكانت سبباً في معاناتك، بحيث تكتب كل مشكلة في ورقة مستقلة، ثانياً: بعد أن تحصر ملفات مواقفك السابقة الصعبة وبعد كتابتها في أوراق قم بوضع تلك الأوراق في سلة مهملات بجانب مكتبك أو مكان جلوسك، ثالثاً: كلما جاءتك أفكار تذكرك بالمواقف التعيسة السابقة، فعليك بأن تنظر إلى سلة المهملات وقل في نفسك: إن هذا الموقف انتهى من حياتي وهو الآن في النسيان وفي سلة المهملات، وعندما يعاودك التفكير في المواقف التعيسة، فتأمل سلة المهملات، وكرر بتأمل بأن هذا الموقف أصبح في طي النسيان وهاهو الآن في سلة المهملات، وهكذا يكون تعاملك مع ملفات مواقفك وأفكارك التعيسة، وبالتكرار ومضي الوقت سيخف كثيراً من ألم استذكار كثير من المواقف الصعبة، وستنجلي المعاناة.
يقول المراجع: عندما قرأت تلك الوصفة العلاجية راقت لي كثيراً، وجاء في بالي فكرة إضافية ظننتها «عبقرية» وهي أنني بدلاً من رمي الأوراق التي كتبت فيها مشكلاتي في سلة المهملات، فإني سأقوم بإحراقها كي تختفي من ذكرياتي بالكلية، باعتبارها انحرقت وتبددت، وبالفعل جمعت المواقف الصعبة التي لم أحسن استعرافها وكتبت كل موقف مؤلم في ورقة ثم جمعت تلك الأوراق وأحرقتها دفعة واحدة، وبعد أن أحرقتها شعرت بسعادة غامرة ثم ذهبت لأنام باعتباري شخصاً جديداً بذاكرة نقية وتفكير خالٍ من أي تشويش، يقول، نمت تلك الليلة وأنا مرتاح البال، وتأكد لي أنني الآن أصبحت شخصاً آخر وكأني ولدت من جديد، قمت من نومي وأنا أقول لنفسي: صباح الخير يا نفسي الجديدة، وبينما أنا كذلك إذا بأحد الملفات التعيسة تنساب لذهني وهمست همساً خفيفاً بإحدى أفكارها البشعة، استغربت همسها ورددت عليها ساخراً: «أنتي! ماذا تريدين»، سكنت قليلاً ثم عادت وردت: ألوه، قلت لها: إلعبي بعيد، لقد حرقتك واحترقتي. قالت لي: ألوه، ألوه، ألو. قلت: يا بنت الحلال، لقد احترقتي؛ قالت: ألوه، ألوه، ألوه، ألو، قلت لها: والله العظيم لقد احترقت؛ فقالت: ألوه، ألوه، ألوه، ألوه، ألوه، ألوه…….حتى اشتدت علي؛ وبينما أنا وهي، في شدّ وجذب وعصف وهدوء، وصراع وسلم، إذ ضعفت أمام سطوتها حتى تمكنت مني وأصبحت منساقاً لها، ثم ما لبثت قليلاً حتى اتصلت عليّ أختها من الملفات التعيسة تقول: ألوه، وهكذا توالت عليّ جميع المواقف المحروقة تباعاً تباعاً، وكأنها ثأرت من حرقي لها لتحرقني، وهكذا عدت للمربع الأول وكأنك يا بو زيد ما غزيت.
انتهت قصة صاحبنا المضحكة وتجربته المحبطة في حل التعامل مع الأفكار والمواقف التعيسة والتي استقاها من النت، إذ ظن صاحبنا أنه بمجرد الاستعانة بنشرة على النت في العلاج النفسي كفيلة بأن تحل وتعالج حاله، وأن مواقع النت كفيلة بأن تصحح الاضطراب النفسي دون الحاجة لمراجعة المختص، وهكذا اقتنع صاحبنا بضرورة مراجعة ووجود معالج نفسي يشرف على حاله، والفرق جداً شاسع بين الحالتين؛ المعلومة من النت؛ المعلومة والإشراف من المعالج المختص. إذ أن يلزم على الطبيب النفسي لكي يتأهل ويصبح معالجاً نفسياً أن يمضي من عمره 6 سنوات يدرس الطب ثم يتدرب 5 سنوات ليصبح استشارياً نفسياً مؤهلاً لأن يعالج الاضطراب النفسي، ويأتي في المقابل أحد يبحث عن حل للاضطراب النفسي خلال 5 دقائق عبر مراجعة النت، وما يقال عن الطبيب النفسي يقال أيضاً عن الأخصائي أو المعالج النفسي.
الحاصل أن بضاعة النت رغم رخصها إلا أن الاعتماد عليها في تشخيص الأمراض العضوية والاضطرابات النفسية أمر خطير، وأكثر من ذلك خطورة أن تعتمد عليها في تحديد أدويتك وعلاجك.
أخيراً، إن الذين يسطحون العلاج النفسي باعتباره صنعة لمن لا صنعة له، ويعتقدون أن الخوض فيه متاح لمن هب ودب ولا يلزم من ذلك التخصصية، هم بلا شك سينتهون بنهاية تجربة صاحبنا، صاحب فكرة حرق أوراق الملفات التعيسة.