رمضان جريدي العنزي
يسكنني ربيع الشمال، جداول مائه وعشبه، أطير فيه كأنني نورس، وأعدو وراء الريح الشفيفة، لون الغدير في الظهيرة كأنه فضة، والغسق والشفق مرايا مبتلة بالوان عابقة بالحسن والبهاء، تدخل قلبي إلى أقصى تلابيب الأوردة، ماء ونواراً وخزامى وشقائق نعمان وصوت عصافير تغرد وفراشات صفراء تشاغب أعشاب يانعة، أذوب في الربيع حين يجيء الربيع، لا سيما ولون البنفسج غاية في الجمال، عطر المكان يراقص روحي ويمنحني الانتشاء، أحب الربيع غزل يتهاوى في حجرات قلبي، كغيم يحمل الأمطار إلى أماكن بعيدة، أو كعطر الأقحوان، هو الربيع سيد حلمي، وهدوء نفسي، وغاية مناي، يا جميل الحداء في ليالي الربيع، يا جميل السمر، يا روضة خضراء تبعث في النفس الألق، يا قطرة ماء جاءت من سديم ثمين، تذهب عني مذاق التعب وتمنحني الوهج، مثل طائر يحلق فوق التلال، أتأمل الفضاء الفسيح، تراتيل الفجر، ورائحة البن المعطر بالهيل والزعفران، أعيد ترتيب القصيدة، كلما أبصرت (أم سالم) تبحث عن عشها الصغير، وأنتشي لصوت (القمري) يرقص تحت ذهول الندى، وأشد (حيلي) في البحث عن مواطن الكمأ، عصافير صغيرة، وأزهار ملونة، تعانق روحي كأنها وصلة مميزة، وتذهب عني كوابيس الحياة، أتجول في أرض الربيع وكأنني الفرزدق أو جرير، عشب وضوء وعطر وأقواس غمام، يملأني بالأرجوان المشبع كبياض الرخام، أجد روحي هنا في حضرة الربيع، وكأنني طفل برئي في حضن أمه ينام، أو كنورس هده شغب البحر، أو مثل نرجسة للحنين المباغت، أو كقنديل يضيء عتمة المكان، عندما أجلس في حضرة الربيع، تزدان روحي كبياض، أو كعطر، أو كتفاح، أو كخبز يشبه خبز أمي في وقت الظهيرة، في حضرة الربيع أغفو لأستريح من لواعج الحياة، وأغمض عيني على صوت الربابة، يعزفها واحد من قديم الزمان، ليظهر أقصى خبايا الروح، ويشعل في النفس ماض دفين، ويجعلها تقول الذي لا يقال، ويتسع اللفظ وفن التخاطب، هو الربيع ملح الحياة، ومثل الأكسجين في الدماء، مثل موج البحر، ولون القمح، ولحن الحداء، ومثل عطر في زوايا المكان يفوح، ومثل أسراب الحمام على الأطلال، ومثل نورس يطير على وجه البحيرة، هو الربيع عندي مثل ظل وقصيدة، وغاب وبحيرة، وهامات نخل وأثل وشمس.