رضا إبراهيم
منذ القدم وعملية تطوير العمارة الهندسة مستمرة دون توقف، لكن القرنين (20 - 21) قد أتيا ببعض الثورات التي لم تكن في الحسبان أو يمكن أن يصدقها عقل، حيث أدى تطوير الخرسانة المسلحة لظهور أشكال خاصة ومتميزة من الكباري والأبنية الحكومية وناطحات السحاب وغيرها من المنشآت الأخرى، ومنذ عدة عقود كانت العمارة مقتصرة فقط على التصور المادي وتفعيل الأفكار لبناء المباني، بجانب العديد من التقنيات والمواد الأخرى المختلفة، ما أدى لتحسين شكل العمارة بمعظم دول العالم.
وتعتبر بداية القرن العشرين، هي البداية الحقيقية لإيجاد حلول أفضل وأكثر حداثة للعمارة المستقبلية، حيث عملت «التقنية الناعمة» على تحسين كافة مجالات العمارة، وبفضل تلك الحلول الحديثة باتت الهندسة المعمارية أكثر سهولة وأكثر فاعلية، سواءً من الناحتين الجمالية أو التفضيلية، ما يعني أن العلاقة بين الهندسة المعمارية والتقنية الناعمة أصبحت هي مفتاح السر للتحسينات الإضافية للعمارة المستقبلية.
والتقنية الناعمة بخصوص نفس المجال، تتمثَّل في العديد من الاختراعات، والتي من أهمها «الطابعات ثلاثية الأبعاد»، فعندما اخترع الخبراء أول طابعة ثلاثية الأبعاد، كان الغرض من هذه الأعجوبة التكنولوجية هو طباعة أشياء صغيرة باستخدام أنواع مختلفة من اللدائن، ومع نمو تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد قليلاً أضاف الخبراء المزيد من المواد، ما سهل عملية إنتاج لدائن جديدة، كما سمح بطباعة هياكل أكبر، إذ يمكن الانتهاء من بناء منزل تقليدي في أسرع وقت أقرب، وبشكل لا يكن يتخيله عقل أبداً قبل ظهور هذه التقنية.
فمن خلال (ضغطة زر) يمكن طباعة بيتاً كان في السابق عبارة عن حلم لا أكثر، وبضغطة زر أخرى يمكن للخبراء وبأسعار أرخص من الطرق التقليدية للبناء تركيب الأجزاء المطبوعة مسبقاً بأنظمة البناء التقليدية بفترة لا تتجاوز أسبوعين، وأما عن النواحي الجمالية أو المشكلات الهيكلية، فإن القلق هنا منسي تماماً، فالمنازل المطبوعة ثلاثية الأبعاد يمكن أن تكون صلبة مثل المنازل التقليدية وذات ملمح جمالي في التصميم.
ومن التقنيات الناعمة أيضاً المستخدمة بالعمارة المستقبلية تقنية «الواقع الافتراضي والمعزّز»، حيث أصبح الخيال العلمي واقعاً ملموساً ولا مفر منه وأساساً للحلول التقنية، ومن خلالها يمكن للمهندسين المعماريين تحسين التواصل مع العملاء، وتبسيط المهام المختلفة لتصميم وتصور النماذج ثلاثية الأبعاد، كما سمحت تقنيات الواقع الافتراضي للمهندسين المعماريين بتقديم أروع ما لديهم إلى لعملاء، فعبر استخدام نظارات الواقع الافتراضي والمعزّز (VR - AR) يمكن للعملاء من خلالهما تخيل ورؤية صور المساحة المصممة، والشعور بها قبل بدء أعمال البناء بطريقة أسهل من أي وقت مضى.
علاوة على ذلك يمكن للمعماريين والمتخيلين ثلاثي الأبعاد، استخدام هذه التقنيات أثناء التصميم ما يقلل أيضاً من التكاليف والنفقات، والواقع المعزّز مكن المهندسين المعماريين أيضاً القيام بسحب نماذج ثلاثية الأبعاد مخزنة في جيوبهم، باستخدام الهاتف الذكي فقط، ومع وجود عدة تطبيقات يمكن لتقنيات الواقع الافتراضي والمعزّز، تصور مخططات طبقية ثنائية الأبعاد أو حتى صور تصبح عظيمة الفائدة في موقع البناء.
كما تُعد المواد المستدامة من التقنيات الناعمة أيضاً، حيث أدت التطورات التقنية المستخدمة لإنشاء وتحسين مواد بناء أقوى بكثير ومختلفة تماماً، ولأن المواد المعرضة للتآكل كانت تمثّل على الدوام مشكلة كبيرة، قرر العلماء والمهندسون تحسين جودة تلك المواد، خاصةً عندما يتعلّق الأمر بالعناصر الهيكلية، وبالحديث عن الخرسانة ذاتية الشفاء، فهي تُعد ثورة كبيرة في عالم البناء والتي طورها «هاينريش يونكر» عالم الأحياء الدقيقة بجامعة «دلفت» بهولندا، وهي نوعية خرسانة أوجدت الحل الأكثر فاعلية من حيث التكلفة والكفاءة.
ويأتي تسميتها بذاتية الشفاء أو ذاتية الإصلاح، كونها تقاوم أية شقوق وتغلق أية ثغرات قد تظهر فيها، أي تشفي نفسها من تلقاء نفسها أولاً بأول، على عكس الخرسانة السابقة التي يتكاثر بها الشقوق وتتضخم بمرور الوقت، ما يقلّل من سعة الحمولة ويؤثّر على جماليات المبني، علماً بأن ثمن المتر الواحد من الخرسانة ذاتية الإصلاح، يقارب ثمن نفس المساحة من الخرسانة الأخرى التقليدية أو أزيد قليلاً ببعض الأحيان، وهي زيادة نسبية لا تقارن أبداً مع حجم منافعها.
وبجانب تقنية الخرسانة ذاتية الشفاء، هناك الخرسانة المسلحة الشفافة والمسماة أيضاً «الخرسانة ناقلة الضوء» وهي مادة بناء ذات خصائص نقل الضوء بسبب العناصر الضوئية المدمجة عادة بالألياف الضوئية، حيث يمر الضوء من خلال الحجر من طرف معين لآخر، ما يعني وجوب مرور الألياف عبر الجسم كله وينتج عن ذلك نمطاً ضوئياً معيناً على السطح الآخر، وبالاعتماد على بنية الألياف تظهر الظلال الملقاة على جانب واحد كظلال عبر المادة، والخرسانة الشفافة الجمالية تستخدم في العمارة المستقبلية، باعتبارها مادة للواجهة ولكسوة الجدران الداخلية.
كما تستخدم هذه الأنواع الشفافة في منتجات التصميم المختلفة، وعلى الرغم من أن فكرة نقل الضوء للخرسانة كانت موجودة منذ سنوات، لكن تقديم المفهوم الفعلي للخرسانة الشفافة ظهر عام 2001م على يد آرون لوسونزي وهو مهندس معماري مجري الجنسية، وتتميز الخرسانة ناقلة الضوء أيضاً بالقوة والمتانة ولديها قدرة تحميل تشابه أو تزيد عن الخرسانة المسلحة التقليدية، لكنها في ذات الوقت شفافة، ومن خلالها أيضاً تم إيجاد حلولاً عملية لمشكلة إدخال الضوء الصناعي بدلاً من الضوء الطبيعي أو يمكن دمجهما معاً، وذلك الحل يعتبر صديقاً للبيئة وفعالاً من نواحي التكلفة.
وفي عصر الرقمية، يمكن للمعماريين تطوير وتمثيل وبناء الأبنية عبر المنصات الرقمية، ما أدى إلى تغيير المهنة بتمكين المعماريين من تصور الهياكل في مناظير متعددة الأبعاد وبناءها في وقت قصير جداً، وتُعد إدارة البيانات أحد أكثر الجوانب الحيوية بشكل أساسي عندما يتعلق الأمر بالهندسة المعمارية، فقبل إدخال التكنولوجيا كان يتم تخزين البيانات في شكل مستندات محمية في أماكن مادية لضمان توفرها كمراجع عند الحاجة إليها، ما جعل هذا التخزين عرضة للتدمير وفقدان المعلومات المفيدة، وبالتالي أدى ذلك إلى وقوع تأثير سلبي على نجاح تسلسل الإجراءات المعمارية.
ومع إدخال تقنية النسخ ظهر تغيير نظام المعلومات بالكامل، وظهرت معه النتائج الإيجابية بحيث يتم تخزين البيانات بالأجهزة الحديثة (الحواسيب)، وتلعب نُظم المعلومات أدواراً جوهرية مختلفة حالة تعلق الأمر بإدارة البيانات المفيدة في العمارة المستقبلية، كما تضمنت إدارة البيانات العديد من الضمانات المتميزة كـ (التخزين والنقل والتصفية والمعالجة والحماية اللازمة للمعلومات) وعلى وجه الخصوص يتم تخزين البيانات، باستخدام النظام عن طريق حفظ الجوانب المختلفة، مثل القياسات والمتطلبات الأخرى الخاصة بهياكل معمارية معينة.
ويعتمد التأثير الأساسي للتخزين على حقيقة مفادها أن خبراء المعمار قادرون على الاحتفاظ بكميات هائلة من البيانات لاستخدامها بعملية التصميم، فلا يمكن للتخزين اليدوي أن يحتوي على بيانات كبيرة، حيث تم تسجيلها يدوياً من قبل الخبراء، علاوة على أن تلك التقنية عدَّلت طريقة نقل البيانات، وزادت مشاركتها مع الكيانات الأخرى، كما أن نسخ الملفات يدوياً عن طريق التسجيل، أظهر أن عملية النقل الإليكتروني للبيانات المخزنة عبر الأجهزة، قد تحسنت مرات ومرات، لأن تقنية تلك الأجهزة تسمح بالمشاركة السريعة والفورية للمعلومات، ومن ثم توزيعها على كل الأطراف ذات الصلة.