سهوب بغدادي
قال سبحانه وتعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} (48 مريم)، وقال جل لجلاله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} (16 الكهف)، يتضح من الآيتين في سورتي مريم والكهف وغيرهما من السور كالأحزاب والنساء والدخان، أن مصطلح العزلة يأتي في مواطن عديدة، وأنه فعل ممارس منذ القدم، حيث تأتي الممارسة عند اشتداد الأذى، وعند المصائب، والاختلاف، فهذا ما فعله الأنبياء والمرسلون في قديم الزمان، فالاعتزال في مكان بعيد أو مأوى أو بالهجرة إلى بلاد أخرى كما فعل عليه الصلاة والسلام مع الصحابة رضوان الله عليهم بهجرتهم إلى المدينة بعد اشتداد الأذى عليهم وكانت (عزلة جماعية) وليست بالمفهوم المتعارف عليه، الذي ينطلق من مبادئ الانفراد بالذات، كذلك أمنا مريم ابنة عمران عندما انعزلت عن العالم ونذرت الصوم عن الكلام مع البشر لعظم ما أصابها، فقد تكون العزلة من الأقربين، وفي بعض الأحيان يعتزل الشخص نفسه وأفكاره فيذهب إلى هواية أو مأوى لا يعرفه إلا هو، قد يكون على هيئة رسم أو طبخة أو حياكة، أو قيادة سيارة، أو اللعب الإلكتروني وتمتد القائمة بحسب ارتياح الشخص لمأواه، حيث يعتزل الرجل أهل بيته أحيانًا فيذهب إلى البر وهي خلوة على خلوة ولكنها في المكان والتوقيت الصحيحين، وقد تعتزل الأم لدقائق معدودة أطفالها في غرفتها على سجادتها لتشحن قواها وتعود لأطفالها ومنزلها وتمدهم بما يلزم، وقد يعتزل المشهور مناسبة وظهور إعلامي لكي يبتعد عن الأضواء والجماهير والإجراءات الروتينية ولو لمرة واحدة، وذلك أمر مشروع، وقد ينعزل الموظف خلال ساعات العمل داخل سيارته لبضع دقائق ليعود متزناً بعد كلمة جارحة من المدير أو مهمة معقدة، فلا بأس أن تكون وسيلة العزلة إلكترونية بأن يستمع الشخص إلى محاضرة أو برنامج فكاهي وما إلى ذلك، فالأهم في الموضوع ألا يتفاعل ويختبر مشاعر غيره كالتعليقات والمقاطع السريعة الخاطفة، فللعزلة فن وإتقانها يتطلب معرفة الذات أولًا، هناك بعض الأشخاص لا يطيقون الجلوس بمفردهم، ولا الأكل بمفردهم، فهم ليسوا مستأنسين بأنفسهم، إن غربة الذات والجهل بها أحد أهم أسباب إهدار الوقت والجهد والمشاعر مع أشخاص غير ملامين لنا ولحياتنا، فكيف أعرف ذاتي؟ وما الذي تريده ويسرها وخلافه؟ قد أخصص مقالًا آخر بأكمله للإجابة عن هذا السؤال، لأنه ببساطة السؤال الأهم في حياة الشخص فلو عرفت نفسك جيدًا فإن احتمالية أن تكون ناجحًا وسعيداً وراضياً عالية جدًا، على الهامش، الجميل في عزلة المؤمن أنه وحيد ظاهريًا ولكن قلبه مملوء بمعية الله الخالق سبحانه ويأنس بقربه، اللهم اجعلنا ممن يأنسون بقربك وممن يحبونك وتحبهم.