كنت أتحدَّث إلى صديقٍ عن ندرة من جمع بين معارف متعددة, وعلوم متجانسة, وأنَّ هذا كان في المتقدمين أكثر منه في المتأخرين, فتجد في وقتنا من يُدلي في بابٍ مال إليه, لكثرة تعويله عليه؛ فارغًا من العناية بالتاريخ, أو ما له تعلُّق به، وضربت له المثال: بمن أقبل على رواية الشعر وحفظه, فوافقني صاحبي في قيلي إلا أنه استدرك عليَّ أنَّه يبقى مَن لديه ذكاء مفرط, وتفنّن في أبواب شتى, ورغبة في المزيد, وسمَّى لي رجلًا قريبًا من محلَّتنا في حي الربوة, وقال: أين أنت من الشيخ ناصر العليوي؟ فإن شئته مؤرخًا, وإن شئته أديبًا, وإن شئته نسَّابة, وأما في الرواية فعليه المعوَّل!
ولم يكن محدِّثي ممَّن يبالغ في الوصف, أو يتزيَّد في النعت, فدلفت إلى دار الشيخ ناصر, بعد أن أهديته كتابًا لي, فشكر الهدية، وكانت هذه بداية الصِلة, إنَّه الشيخ النسابة الأخباري ناصر بن محمد بن ناصر العليوي من الفضول, من بني لام, من طي, من قحطان, ولد في بلدته الزلفي عام 1359, ونشأ في بيت صلاح واستقامة, وكان والده يمتهن الجمالة في نقل البضائع, وهي مهنة شاقة يكابد صاحبها الأهوال, حدَّثني شيخنا ناصر بأعجبها, ولما ناهز التمييز التحق بالكُتَّاب, ثم درس في المدارس النظامية, حتى أتمَّ دراسته في كلية اللغة العربية، وتخرَّج فيها عام 1383هـ, ثم التحق بوزارة المعارف في الشؤون المالية, وفي عام 1392هـ، تحول منها إلى رئاسة تعليم البنات إلى أن تقاعد عام 1415هـ, وكانت وظيفته مدير عام الإدارة المالية, وكانت تسند إليه مهمات في عمله, فنُدب مرةً إلى ألمانيا لإنجاز صفقة أسندت إليه, فبرهن على مقدرةٍ وبراعة, وكان ورعًا عفًّا عن التخوّض في المال والوظيفة, سمعتُ أنَّه يمحِّص النفقة المقدَّرة لسفرته, ويعيد فائضها, وكان إذا أنهى المهمة التي أنيطت به دون الأيام الحددة رسمياً رجع إلى عمله الأساس، ويرى أنه لا حقَّ له في باقي الأيام. وحدَّثني الأستاذ عبدالعزيز بن محمد المشعل -مدير مكتب الرئيس العام لتعليم البنات- وكان رئيسها -آنذاك- الشيخ الجليل ناصر بن حمد الراشد, بأنَّ شخصية علمية كبيرة قَدمت في زيارةٍ للمملكة, فأسند الملك فيصل إلى الشيخ ناصر لقاءها, وإبلاغها رسالة منه, فندب لها مدير مكتبه، وشفع معه الشيخ ناصر العليوي, فقاما بالمهمة على وجهها, وممَّا سمعته من أقرانه أنَّه مع ثقة المسؤولين به وملكاته الوظيفة, ورتبته العلمية إلا أنَّه لم يتطلَّع إلى وظائف كبار, وكان يتوارى عنها, ويتمثَّل لمن عذله بالمثل المشهور: يا بني لا تكن رأسًا؛ فإن الرأس كثير الآفات!
وقد أكسبه هذا السمت بُعده عن الرسميات, وأخذه بالعزيمة في شؤونه, وسرعة البتِّ فيها, ومن أحاديثه الطريفة التي قصَّها عليَّ، ولعلها أثَّرت في تكوينه, أنَّه أدرك الشيخ حمود بن عبدالله التويجري لما كان قاضيًا في الزلفي, ورآه مرةً متكئًا على جدار بيتهم في محلَّة (العليوية) غربي جامع البلدة, قبل غروب الشمس, وقد وقف بين يديه خصمان, فسمع منهما, وقضى بينهما, وانصرف إلى المسجد.
وكان في خاصة نفسه قانعًا بما لديه, أدرك وقت الطفرة، وكان يعرف أعيان التجار, ومنهم جماعة من أهل بلدته, فما استشرف إلى أحد, أو تبذَّل في حاجة, وقد تمكن هذا الخلق من طبعه مستغنيًا ما وسعه, حتى إنه أنِف عن حمل العصا وقد بلغ الثمانين مع حاجته إليها, وهكذا النفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام! وكان في هيئته وملبسه وحسن بزَّته, مِن أحسن مَن رأيت!
رُزق الشيخ حافظة قوية, وذاكرة وقّادة, أحسن توظيفها في النهج الذي أحبَّه، فقرأ دواوين الشعر, وأكبَّ على مجالس الأخبار, واختصَّ بنصيب كبير من الرَّاوية النَّسابة الثَّبْت محمد بن إبراهيم بن معتق, الذي كان في هذا الباب مجلِّيًا, فلازم مجلسه, واستظهر أخباره, ولعلِّي في هذا التعريف العلمي أوجز أهمَّ سمات الشيح ناصر التي وجدتها فيه عن كثب، وهي:
- عنايته بالشعر الشعبي وحفظه لمطوّلات القصائد, ولم يكن يقف عند الإحماض به؛ وإنما جاوزه إلى فهم معانيه, واستيعاب مدلوله, وتحقيق مناسبته, ممّا جعله يميَّز بين القصائد, ويعرف أصحابها ولهجاتهم, ممَّا يسهل معه معرفة القصائد المنحولة, وهذا معنى دقيق قلَّ من يبلغه.
- درايته بالأخبار, وسِير الأعيان, وأحوال البادية ومشاهير الناس, وكناهم, وحفظه للوقائع التي جرت, فغدا مرجعًا فيها,وله إطلاع واسع في تاريخ الدولة السعودية عبر أعصُرها الثلاث, وما حفَّها من أحوال متبدّلة, وقد رأيتُ الشيخ أبا عبدالرحمن بن عقيل الظاهري, يلقي عليه سؤالاتٍ من هذا النوع, فيجد بغيته, ومن ذلك ما ورد في كتابه: (مسائل من تاريخ الجزيرة العربية)؛ ولذا حفل مجلسه بجمهرة من كبار المشتغلين بالأدب الشعبي، وأخبار القبائل وأنسابها, ومنهم: منديل الفهيد, وعبدالله بن صقيه التميمي, ورضا بن طارف الشمري, وإبراهيم اليوسف, والشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري, ومحمد الشرهان وغيرهم.
وكانت له صلاتٌ أيضًا مع أهل العلم المتفنِّنين, كالشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد, الذي دارسه في موضوعٍ مهم وجالا فيه, كما أخبرني الشيخ ناصر بهذا.
- عنايته بالنسب, وحفظه لبيوتات العرب ومن تفرّع منها, وهو في هذا الباب من أوثق مَن رأيت, وعلمت أنَّ كثيرًا من النسَّابين يسألونه عن عقد هذا الباب, ويعوِّلون عليه فيه، وكانت درايته فيه على طريقة العرب الأوائل في الرجوع إلى المصادر الموثوقة, وإعمال الرواية الصحيحة, وهو في هذا الفن الذي أتقنه ينأى عن المضائق التي ولجها مَن لا يحسن.
- درايته الجغرافية والبلدانية وإلمامه بخصائصها من واقع ما قيل فيها من الشعر, أو حفَّها من الأخبار, وله عناية فاحصة بالدراسات التاريخية الحديثة المتعلقة بجزيرة العرب, فكان يقرأ ما كتبه المستعربون عنها, ويصحِّح, ويتقفَّى, وما كان يغمط أحدًا حقَّه, ولطالما سمعته يُشيد بكتاباتٍ أصاب أصحابها.
ومن شواهد مكانته العلمية: درايته بالدراسات التي تُعنى بالرحلات إلى جزيرة العرب, فقد قام بمراجعة كتاب حافل من هذا النوع, وهو كتاب: (رحلة إلى داخل جزيرة العرب), لمؤلِّفه المستشرق الألماني يوليوس أويتنغ, وجاءت تعليقاته متينة مشبعة, على أنَّ معارف الكتاب كانت متنوعة تاريخيًا وجغرافيًا واجتماعيًا, ممَّا يتطلب خبيرًا فاحصًا.
وأما درايته ببلدته الزلفي وتاريخها وأهلها، فلعلَّه كان أوحد في هذا الباب, حتى غدا مرجعًا فيه, ولما أصدر الأستاذ فهد الكليب كتابيه: (علماء وأعلام وأعيان الزلفي), و(أسر الزلفي), كان أكثر تعويله على شيخنا.
وممَّا امتاز به شيخنا أنّه لم يقف عند حدِّ باب سماع الأخبار والأشعار تشهيًّا؛ وإنما كان يكتب ما سمع, ويمحِّص بين الروايات, ويقابل بينها, وطالما سمعت منه دَرَكًا على بعض الرواة في إبدال كلمات، ربما غيَّر المعنى, أو صرف مجرى الخبر عن المراد.
وكان ذوَّاقة للشعر, يعرف جيده, ويورده غير مختلِّ الأوزان, وكان يصحِّح كثيرًا من أخطاء الناشرين, ويقيم أوزان الشعر الشعبي, ومرةً قرأت عليه قصيدة للشاعر الشهير محمد العوني، فصوَّب قراءتي, فقلت: هكذا جاءت في الديوان, فعقَّب عليَّ: (الخطأ من الناشر.. العوني ما يخطي)!
وحدَّثني مرةً عن الخيل وجمالها وخيلائها وتثنيها, فاستجاد بيتًا أبدع في وصفها وأنشدنيه وهو:
صِفْرٍ يكاظْمَن الأعنهْ بهنْ زومْ
صِفْرٍ تلاقَى روس الاذالْ والعِرفْ!
وكان يتخذ أضابير يجمع فيها ما كتب, ولم يكن ضنينًا بعلمه؛ وإنما يعطي من سأل, ومثلها مكتبته التي أحسن تكوينها, فكان يعير الكتب وما كان يسأل ردَّها, وإنما يغضي غير عاتب ولا لائم, وكان وقت نشاطه يزور المكتبات, ومعارض الكتب, فيبتاع منها ما راق له, ولما عاقه المرض تثاقل, وما كان يوصي أحدًا من طلابه الذين طالما نفحهم من هباته, وأغدق عليهم بصلاته, وقلَّ أن يغادره طالب علم, إلا نفحه كتابًا, ومرةً حدَّثته عن النسخة الخطيَّة التي أخرجتها دارة الملك عبد العزيز لكتاب: (تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق), للمؤرخ عبد الله بن محمد البسام, فسألني عنها بغرام, فأحضرتها له, فأعرض باحتشام, وأمسك عن الكلام, وأطرق ثم قال: كلّفت نفسك يا عثمان! وقد عرفتُ فيه أنفة نفس, وبذله ما يجد, ولسان حاله يتمثَّل قول الصاحب ابن عباد لما أهداه صاحب له عدة كتب, فأخذ منها واحدًا، وردَّ الباقي وكتب معها:
قد قبلنا من الجميع كتابًا
ورددنا لوقتها الباقياتِ
لستُ أستغنم الكثير فطبعي قول «خذ» ليس مذهبي قول «هاتِ»!
والشيخ ناصر منذ أن تقاعد وهو مقبل على مكتبته, وعامة جلوسه فيها, إما أن يقرأ, أو يكتب, وإذا غادرها إلى غرفة أخرى اصطحب معه كتابًا, ولما أجهده المرض، وشقَّ عليه حمل الكتاب, كان يضعه على حامل المصحف, وبأخرة ترك الكتاب لما ضعف عن تقليبه, واقتنى جهازًا فيه بعض الكتب المحمَّلة, يديره بالسبَّابة, فما أجْلَده!
وما كانت رغبته تقف على الكتب؛ وإنما جاوزها إلى اقتناء المجلات العلمية, وإذا أعيا عليه طِلابُها, استلَّ المبحث الذي يعنيه، وضمّه في غلاف يحويه, وطالما أهداني بحوثًا نفيسة على هذا المنوال.
والحديث عن مكتبة الشيخ ناصر يطول, ولئن أحسن في انتقائها, فقد أفرغ فيها علمه, وأعمل فيها ذوقه, ولما عزمت دار العارض على إخراج كتاب (النجم اللامع), للراوية محمد العبيِّد, أمدَّني بنسخته التي صنع لها فهرسًا, وعليها تعليقات نسبيَّة نفيسة له, وقد صحَّ مني العزم على قراءتها عليه, واستشرف هو لهذا, بيد أنَّه صرفني عنها ما يكابده من المرض, فاكتفيت بكتابة تعريف للكتاب ومؤلِّفه, جاءا في طليعته, مع الإشارة إلى نسخته.
وما كان الشيخ يضيق بي في زيارتي له, بل كان إذا تباطأ مجيئي هاتفني بالجوال, وبادر بالسؤال, وخصَّني بجلسة بعد العصر إلى غروب الشمس؛ لأنه يذهب إلى المسجد قبل الأذان, ثم يعود بعد المغرب إلى مجلسه المفتوح، وما كان يُشركني في هذه الجلسة أحدًا.
وكان - أمطر الله على قبره شآبيب رحماته - كريم الطبع, رقيق الذوق, حال زيارتي له, وإذا تناول كأس القهوة أو الشاي, وما كان من أربابهما, يرتشف منه مرةً، ويبقيه دِهَاقًا كهيئة من يريد شربه, ومراده ألا يعجل عليَّ فأمتنع لانتهائه, وكان يقطع حديثه ويلتفت إليَّ, مُرددًا عليَّ: (تقهو.. تقهو.. حياك الله).
وطالما أفدتُ من هذه الجلسة, فأقرأ عليه من دواوين الشعر, أو من كتب الأخبار, أو بعض كتاباتي فيصحّح, ويضيف, ويستدرك, وتاراتٍ يصطحب كتابًا من عنده, ويختار الموضع لأقرأ فيه, وكنتُ أرتاح لصنيعه؛ لحسن انتقائه, واختيار المرء قطعة من عقله!
ومن خِلاله التي وجدتها فيه: أنَّه كان طويل الفكرة, ذا أناة وثَبَت, إذا سُئل عن مُشكل, أو عبارةٍ محتملة, تأنّى في الجواب, وتحرِّى الصواب, وربما راجع المسألة حتى يجلِّيها كما ينبغي, وقد ساعده ذكاؤه الفطري, ودراسته في كلية اللغة العربية على تأصيل معارفه.
وكان حال القراءة عفَّ اللسان, يَعرِض المناقب, ويطوي المثالب, وإذا مرَّ بنا شيءٌ منها أشاح بوجهه وقال: ما زالت الأشراف تُهجى وتُمدح!
وإذا وقفتُ عند بعضها ممَّا لم أعِ معناه أعرض، وقال: ما ودنا نخوض مع الخائضين!
وكان الشيخ ناصر منذ نشأ على هذا الخُلق الرضيِّ, والأدب الحيّي, سمعتُ ممَّن لازمه قبلي, أنَّه كان يدير مجالسه المفتوحة في بيته, التي يرتادها حفظة الشعر الشعبي ورواته, وحملة الأخبار, على أحسن نهج, ويزمُّ خطامها عن لغوٍ أو عوج, فلا استطالة في عرض, أو إسفاف في رواية, فكانت مجالسه عفَّة, وأنديته شريفة, لا مأثمة فيها.
وفي زوراتي الأخيرة قرأت عليه, فلما هممت بالانصراف انظرني قليلا، وبجواره كتاب, فأخرج القلم ليدوِّن إهداءه عليه, فرمقته وهو يكتب، وتباطأته بعد أن كان من أربابها, فخلجني بعينه، وكأنَّه ناجه ما خامر نفسي, فناولني الكتاب، وهو ينشد أبيات أسامة بن منقِذ:
مع الثَّمانين عاثَ الدهرُ في جَلَدي
وساءني ضعفُ رِجلي واضطرابُ يدي
إذا كتبتُ فخطِّي جِدُّ مضطربٌ
كخَطِّ مُرتعِش الكفَّين مُرتعِدِ
فاعجبْ لضعف يدِيْ عن حملها قلمًا
مِن بعد حَطْم القَنا في لُبَّة الأسدِ!
فأسيت لهذا وقلت: عسى ألاَّ يكون إنشاد مودِّع؟!
ولم يزل الشيخ ناصر على صدارته العلمية, وفتح بابه لقاصديه, وأريحيَّةٍ استمالت إليه من عرفه, يزينها بابتسامةٍ لا تنفكُّ عنه, مع صوت خفيض, ولما أثقله المرض الموهِن ترك هاتفه الجوال, وتوارى عن زائريه, واجتهد بنوه في موارة ما يشجيه.
وكانت وفاته في الرياض ليلة الجمعة، 19 من شهر رجب الحرام عام 1444هـ، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة في مسجد الراجحي، ودفن في قبرة النسيم، وقد شهدتُ دفنه في جمع كبير.
وممَّا بخع نفسي, واستثار حشاشتي, ما حدَّثني به ابنه الأستاذ محمد عشيَّة دفن والده أنَّه كان يسأل: ما فعل عثمان.. لم نره!؟ فأحسن الله جزاءه.
وأراني وقد خلا مجلسه من شخصه, وأقفر ديوانه من رجعه, وصوَّح رَبعُه المأنوس منشدًا قول محمد بن أبي العتاهية، حين عرَّج على مجلس الأصمعي بعد وفاته، وقد أوحش بعده فقال:
أسفتُ لفقدِ الأصمعيِّ لقد مضى
حَميًدا له في كلِّ صالحةٍ سهمُ
تقضَّت بشاشاتُ المجالسِ بعده
وودَّعنا إذ ودَّع الأُنسُ والعلمُ
وقد كان نجم العلم فينا حياتَه
فلمَّا انقضتْ أيامُه أفل النَّجمُ!
أحسن الله الخَلف بفقده, وشمله بعفوه، وبارك له في عمله، وجعل قبره مستقرًا لهباته, وموئلًا لرحماته، إنَّه خير مسؤول.
** **
- د. عثمان بن عبد العزيز العسكر