طارق الخميس
قبل عقدين من الزمن، اعتقدنا أننا بلغنا الغاية، وأن الدنيا تسارعت واختُصرت وتطورت، حتى أطلقنا على ذلك العصر لقب «عصر السرعة». كان المعنى إيجابيًا حينها، فقد أُهدرت أعمارٌ طويلة في طوابير لا داعي لها، وعانت عجلة التنمية من ضياع الوقت في أمور روتينية لا تقدّم ولا تؤخر.
يقول المثل الشرقي: «لن تعرف خيري حتى تجرب غيري». وأراه صادقًا في واقعنا اليوم، فنحن اليوم نعيش عصر التشتت، والسرعة الجنونية، التي جعلت حياتنا على صفيح ساخن، ثم نتذكر عصر السرعة القديم الذي كان رحيماً بنا، ولم يكلفنا فوق ما نستطيع، فنترحم على أيامه.
عصر السرعة الجديد جعلنا مدمنين على العَجَلَة والاختصار، علاقاتنا سطحية، أحاديثنا جانبية، وحتى مائدة الطعام التي كانت تجمعنا، لم يعد لها حاجة في ظل وجود المطاعم السريعة وتطبيقات التوصيل.
ولو سُئلتُ عن أكبر مساوئ هذا العصر، لقلتُ إنه خدعنا بألاعيبه، وجعل الواحد منّا يظن أن إنجاز أي شيء يحدث بسهولة وبسرعة، فالتعلم سريع، والأكل سريع، والعلاقات سريعة عابرة، حتى الأغاني التي كانت تمتد إلى ربع ساعة، صارت اليوم لا تتجاوز أربع دقائق.
حتى المحتوى الذي يملأ الفضاء اليوم مكتوبًا ومسموعًا ومقروءًا، صار الحصول عليه أسهل من شرب الماء، يأتينا عندما نطلبه، وعندما لا نطلبه، كل ما تتمناه منك منصات المحتوى أن تعطيها بعض الوقت فقط، وهي ستجلب لك ما تشاء بلمسة زر. («ضغطة زر» مصطلح في عصر السرعة القديم، اختصره عصر السرعة الجديد فصار لمسة زر). على عكس ما كان عليه الحال في الماضي القريب، يوم كنا ننتظر المسلسل المسائي بفارغ الصبر، المسلسل قوي الشخصية، الذي لا يأتي إلا في وقته المعلوم، لا ينتظرنا ولا يسأل عنا، ولا يبال بنا حضرناه أم لم نحضره.
صار العمل العميق، والتفكير العميق مهارة صعبة غريبة لا يقارب مستوى صعوبتها إلا التحدث باللغة السواحيلية، أو الحصول على الزئبق الأحمر. لم نعد نحتمل أي «تمطيط» فالمحتوى وافر، والخيارات كثيرة، ولا يستحق أي شيء مهما عَظُم فرصة ثانية.
صرنا نعتبر الشخص الذي ينجز مهامًا أكثر في وقت أقل، شخصًا فنانًا، فهلويًا أو «مخه نظيف»، وشاعت فينا القراءة السريعة، والملخصات الخفيفة، والكتاب في دقيقة أو دقيقتين!
لا أظن أننا وصلنا إلى نهاية السرعة، ولا قريبًا منها. لأن المجال مفتوح، والمستقبل حافل، والشركات تخوض السباق بجدية، ولا تتوقف عن محاولة جذب الانتباه، والربح السريع.
تقول الحكمة الأوروبية القديمة: «ينبغي أن نعطي بعض الوقت للوقت».
نعم، وهي حكمة لا تناقض فيها، وتصدق على حالنا اليوم. لأننا لا نسمح للوقت أن يمكث، نلاحق الزمن، ولا نشعر بمرور الوقت، ولا نعطيه فرصةً ليمر بهدوء، ويغير من حالنا، ويؤثّر في عالمنا.
إن العمل العظيم، والإنجازات التي تؤثر على حياة الناس والإبداع، لا يأتي إلا في وقت طويل، وعبر عملٍ عميق مركز، نعطيه سنام الوقت ونندمج فيه، حتى يكافئنا وندخل به جنة الإبداع، ونجني نفائس الأفكار.
من اعتاد أن يمرّ سريعًا، لن يقدر على رؤية التفاصيل وعيشها. لن يدرك عمقها ووقائعها. لن يكون صيّادًا ماهرًا، ولا مبدعًا خلاقًا.
حتى الاستمتاع البريء يحدث عندما تنخرط فيما يمتعك، ولا يشغلك عنه هاتف ذكي، ولا وسائل تواصل.
أعلم أن إضاعة الوقت في الأمور الروتينية والبيروقراطية شيء بغيض لا يتمناه أحد، لكن تضييع الوقت مشتتًا سطحيًا أبغض منه وأسوأ. إذ هو يمنحنا شعورًا زائفًا بكوننا مشغولين ومنجزين وناجحين، والحقيقة أننا لا شيء مما سبق.