عبدالرحمن الحبيب
هناك ما يربو على ثمانية مليارات عملية بحث في اليوم الواحد على محرك البحث جوجل؛ ولو جمعت محركات البحث الأخرى كافة لن تصل إلى عُشر هذا الرقم؛ فقد هيمنت جوجل على مدار العقدين الماضيين بسبب مستوى الإجابات مقارنة بغيرها بفضل الخوارزمية الخاصة بها.. هذه الهيمنة تضيف مليارات الدولارات لبيع الإعلانات، لتصل قيمتها السوقية إلى 1.4 تريليون دولار، مما يجعلها رابع أكثر الشركات العامة قيمة في العالم (مجلة إيكونيميست).
جوجل سبق أن واجهت تحديات من بعض التطبيقات وتجاوزتها لكن هذه المرة يبدو أن هيمنة جوجل تواجه تحدياً خطيراً وقد يكون وجودياً.. إنه روبوت المحادثة تشات جي بي تي المطور (التابع لشركة مايكروسوفت) الذي يعمل من خلال التنبؤ بالكلمة التالية في الجملة التي تكتبها في استعلامك، مستنداً على نموذج لغة هائل الضخامة يحلل ملايين النصوص من الإنترنت. الفرق في هذا الروبوت أنه يمكنه إنتاج إجابة مكتوبة بوضوح بدلاً من مجرد عرض قائمة من الروابط التي تقدمها جوجل.. «إنه أشبه بشخص آخر يقرأ نيابة عنك ويخبرك بالمعلومات المفيدة» كما تقول بيث سينغلر، من جامعة زيورخ؛ ومن هنا أطلق عليه اسم «قاتل غوغل». في رد استباقي كشفت مؤخراً الفابيت (التابعة لجوجل) عن روبوت المحادثة الخاص بها، Bard، لكنه لا يزال قيد التجربة.
عند التطبيق على استعلامات بحث تشات جي بي تي، يمكن أن تحتوي الإجابة على العديد من المتغيرات.. مثلاً، هل تريد الذهاب في رحلة ليوم واحد إلى مكان بعيد رخيص الثمن وجيد للأطفال وتعليمي؟ ما لم تكن لديك تسجيل في مدونة السفر، فإن العثور على إجابة دقيقة على جوجل يتطلب مقارنة العشرات من مواقع الويب وقراءتها؛ بينما يقدم تشات جي بي تي قائمة من الخيارات اللائقة في لحظات. إنه «أول مثال واضح على نطاق واسع» يهدد هيمنة بحث جوجل كما يقول إريك شميدت المدير السابق في جوجل، فيما وصف بيل جيتس هذا النوع من الذكاء الاصطناعي التوليدي بأنه «مثل أهمية الكمبيوتر نفسه ومثل أهمية الإنترنت»؛ أما الرئيس التنفيذي لجوجل بيتشاي فوصفه بأنه «كود أحمر» على شركته.
روبوت المحادثة تشات جي بي تي تم تطويره بواسطة OpenAI، وأطلق في 30 نوفمبر الماضي وهو مبني على مجموعة نماذج اللغات الكبيرة، تم ضبطه بدقة نهج نقل التعلم باستخدام تقنيات التعلم المعزز، وسرعان ما جذب الانتباه لردوده التفصيلية والإجابات الدقيقة عبر العديد من مجالات المعرفة، ففي غضون خمسة أيام اجتذب مليون مستخدم، مما يجعله أحد أسرع عمليات إطلاق المنتجات الاستهلاكية في التاريخ. بعد إصداره، قدرت قيمة OpenAI بنحو 29 مليار دولار أمريكي، ومنذ إطلاقه اكتسب حوالي 100 مليون مستخدم نشط شهريًا..
يعتقد أن تشات جي بي تي سيؤدي إلى تغيير طريقة بحث الأشخاص، الذي بدوره سيؤدي إلى تغيير ما يبحثون عنه. بالإضافة إلى البحث عن المعلومات الموجودة، يمكن للمستخدمين استعمال البحث التخاطبي لإنشاء محتوى أصيل تمامًا فيمكنه أن يكتب لك الشعر والمقالات بأسلوب مؤلفك المفضل إذا كنت ترغب في ذلك، كما يمكنه صنع الموسيقى من النص أو تأليف موسيقى من دمج مقطوعات.. لكن ثمة إشكالية بأن البيانات تنهى حتى 2021 وسيتم عمل التحديث لاحقاً كما تقول الشركة.
إنما ثمة مشكلة تكنولوجية كبيرة تحاول مايكروسوفت معالجتها.. فمثل كل النماذج اللغوية الهائلة الضخامة، لا تملك روبوتات المحادثة تشات جي بي تي أي إحساس بما هو صحيح أو خطأ؛ إنها تعكس ما هو موجود على الإنترنت بكل ثغراته ونتوءاته، فقد تظهر المحادثة بنص هذيان بلا معنى بينما تبدو وكأنها جديرة بالثقة. وقد يكون ذلك غير ضار عند استخدام روبوت المحادثة للمتعة والألعاب، ولكنه عيب فادح عندما يُقصد به إعطاء إجابات حقيقية لأسئلة جادة أو علمية. لذا، في العام الماضي، اضطرت شركة ميتا إلى إزالة روبوت المحادثة العلمي، جالاكتيسيا، بعد أن تبين أنه ينفث بالهراء العلمي.
لعلاج تلك المشكلة، تم منح النموذج الوصول إلى البيانات المحدثة كي يؤدي إلى تقليل معدل الهذيان اللغوي، كما تم جعل المستخدمين يصححون ويخبرون النماذج بأي الإجابات أفضل وما هي المعلومات التي يمكن الاعتماد عليها؛ لتتم إضافته إلى ذاكرة الأنظمة، حتى تتمكن الخوارزميات من التعلم من المحادثات ونشر روابط لمصادر في الردود التي تم إنشاؤها، وعليه تتوقع مايكروسوفت أن تكون برامج المحادثة الآلية رصينة تمامًا في غضون عام أو عامين.
المشكلة أن كل روبوتات المحادثة مليئة بهذه النوعية من الأخطاء، فما الذي يجعل نموذج «تشات جي بي تي» من مايكروسوفت أفضل من نموذج «بارد» من جوجل إذا كان كلاهما قد ينتجان معلومات ليست واقعية؟ يشير البروفيسور غاري ماركوس إلى أنه: «نظراً لأن أياً من الشركتين لم تخضع منتجاتهما بعد لمراجعة علمية كاملة، فمن المستحيل تحديد أيهما أكثر جدارة بالثقة».
إلا أن المشكلة الأعمق كما تطرحها صحيفة الجاردين أن البشر يخدعون أنفسهم من خلال الاعتماد المفرط على «الآلات الذكية»، ويقوضون الممارسات التي يعتمد عليها فهمهم... ولذلك مقال آخر.