هذا الكتاب هو ترجمة كاملة، ومذكرة وافية، وهو وثيقة إدارية صادقة كل الصدق واضحة كل الوضوح على الحقبة الزمنية التي عاشها الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم أبو حيمد.
هذا الكتاب يحكي صورة فوتوغرافية دقيقة لا تأتي على أخضر ويابس أو على شاردة وواردة إلا استوعبته وجلت عن صهوته غبار الأيام، وصوارف الأزمان، وعوادي الدهور، على الحقبة الزمنية التي عاش بين برديها، وفي جناب أهابيها، بطل المسيرة الشيخ عبدالرحمن أبو حيمد، وكتابة السيرة الذاتية، والترجمة الغيرية فن، من الصعوبة بمكان، لأنه من يحمل هم التجرد عن النزعات وامتطاء مركبي الصدق والصراحة.
هذه التجربة الإدارية تصف حياة بطلها بكل ما فيه من كمال ونقص وقوة وضعف وجلي ومستبهم، وواضح وغامض، أضف إلى ذلك جانب المتعة والأُنس الذي يُرافق السير الذاتية، والتراجم الغيرية. وفي الكتاب تلاحم عجيب بين لغة مقدم الترجمة الأستاذ الفاضل/ يوسف بن محمد العتيق، وبين بطل السيرة معالي الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم أبو حيمد- حفظه الله ورعاه - هذا، وقد غلب على هذه الذكريات روح الحيادية والموضوعية والتجرد عن المديح والإنصاف بلا رونق المبالغات وبريق المواصفات، وهي تطرق جوانب سيرة معاليه، منذ نعومة أظفاره، إلى أن بلغ مبلغ الرجال إلى مرحلة غدا فيها كهلاً يافعاً، ممتلئاً حيوية وتدفقًا ونشاطًا.
هذه تجربة إدارية بديعة يكللها الصدق والصراحة، والإرادة والتحمل وبُعد النظر، أول ما يستهويك تلك السجعة الجميلة في عنوان الكتاب من (جماز إلى الإنجاز)، وجماز هو الاسم القديم لعودة سدير مسقط رأس صاحب السيرة، وقد تيمته حباً وصبابة وعشقاً وهياماً حتى ترنم فيها قائلاً بشعر نبطي صادق العاطفة، شجي الحس والإحساس، وهذه القصيدة المعبِّرة جاءت ضمن ديوان صاحب السيرة، والمعنوَن له بالعنوان التالي (فيض الخاطر).
يقول فيها:
يا قريتي مني عليك التحية
تحية من لك على الدوم مشتاق
وتحية لأهلك بذيك الثنية
أهلي وخلاني مودين ورفاق
بالسهل وجبالك تجود العطية
لا عليها سيل من السحب حقاق
الأرض خضراء والمراعي غنية
فيها الشجر والعشب مزهر وبراق
بوراط والجوفاء ووادي الركية
تسرح غنمنا والمها فيه عتاق
نطرب لصوتٍ صادر من ركيه
محّالة غنّت كما صوت الأبواق
أشفق على هرشٍ وذيك المطية
تسنى بغربٍ يجلب الماء والأرزاق
بين الفلاحة والدبش والرعية
كل حمى نفسه عن العوز وإملاق
حياتهم كانت حياة هنية
بربوعهم رغم التعب حزن ما حاق
مع الفقر أهلك كرام السجية
للضيف والقادم كريمين الخلاق
ما أحلى على المجمار جلسة عشية
فيها القمر يضوي على الكل شرّاق
ما أحلى الطرب لا رددوا سامريه
وإلا الهجيني بين مادح وعشاق
ياما بدارك من ليالي مريه
عهد الطفولة والصفا وقت الإشراق
من ينكر الماضي وقع في الرزيه
دنيا بلا ماضي ترى مالها آفاق
هذا، وقد خرج صاحب السيرة من مسقط رأسه جماز وهو الشاب الذي لم يكمل العقد الثاني من عمره المتطاول، فيتنقل من مسجل في وزارة التجارة إلى وكيل في جهاز من أهم أجهزة الدولة وهو: (الحرس الوطني)، ويقف متحدثاً عن مشروع من المشروعات التي أشرف عليها فيستمع إلى شرحه كل من الملك خالد بن عبدالعزيز والملك فهد بن عبدالعزيز والملك عبدالله بن عبدالعزيز وصاحب السمو الأمير سلطان وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وهو يرفل في الأربعين من عمره الناهض، ثم يخرج من مسقط رأسه، وجنبات مرابعه، وهو لا يحمل من الصفات والألقاب سوى أنه طالب في المرحلة الابتدائية ثم تتزاحم عليه المناصب والدروع والأوسمة، ثم هذا الطفل اللعوب الذي كادت روحه أن تزهق من وراء عبثه فيشرف على بناء مراكز عسكرية، ومستشفيات، ومكاتب، ويعقد ابن جماز ابن القرية الصغيرة المحدودة الصلات علاقات شرَّق فيها وغرَّب، علاقات وصداقات ومودات، ثم يدلف إلى عالم العقار الرحب المستفيض فتتنوع وتتسع محفظته الاستثمارية ثم من ابن القرية الصغيرة الذي يساعد زميله في حل الفروض المنزلية مقابل شقفه خبز وزجاجة مشروب غازي إلى مساهم كبير من مساهمي طرق الخير والإحسان والبر.
ثم يخلص ناسج هذه السيرة إلى تساؤل ملح أثقل الوطأة على نفسه فيقول متسائلاً: (أليس هذا إنجازاً)؟
ثم يستهل حديثه وقد أجاب من تلقاء ذاته: (هذا بإيجاز حديث عن بعض رؤوس موضوعات الإنجاز عند عبد الرحمن بن إبراهيم أبو حيمد، الذي يسعدني أن أقدمه للقارئ الكريم في هذا الكتاب) ثم يكمل حديثه قائلاً: (سعدت كثيراً بالتنقل مع عبد الرحمن في هذه الذكريات والمذكرات والخواطر، التي أجزم بأن القارئ سيجد فيها مادة ثرية تتجاوز الحديث عن صاحب السيرة إلى أحاديث تهم شريحة كبيرة من مواطني هذه المملكة الغالية، وتهم كل باحث عن كتب التراجم والسير للشخصيات العامة).
أما الفائدة والبغية على المجال الشخصي: (فقد وجدت في كتابة هذه السيرة الكثير من الفائدة وثراء المعلومات عن جوانب كثيرة مهمة).
هذه السيرة العطرة ومن خلالها وفي سبيلها لم يرق لمعالي الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم أبو حيمد أن يطلق عليها إنجازاً غير أن ناسج السيرة يضع قارئ الكتاب هو الحاكم المنصف والعدل المقسط فيقول: (هذا الكتاب بين يديك وسنوات عبد الرحمن في خدمة الدين والملك والوطن بين عينيك، أدع الخيار لك لتحكم هل ما قدمه عبدالرحمن إنجاز أم لا؟.. كاتب هذه الأسطر والكثيرون يرونه إنجازاً، إلا أن المعترض الوحيد على كلمة (الإنجاز) في العنوان هو عبد الرحمن نفسه، متمنياً ألا يتضمن العنوان أي إشادة وثناء على التجربة، بل أن يجد الإشادة من القارئ).
والسيرة التي قاربت الثلاثمائة ورقة ماتعة موحية بالجلد والصبر وقوة العزيمة وصدق الشكيمة، والطموح العريض، والإصرار العنيد وبطلها متعلق بالسمت وحسن السؤدد ولين الجانب وتواضع العريكة.
وقد كتبها أو تفوه بها بطلها بدقة عجيبة وترتيب مسبق، فهي تنبئ عن ذاكرة قوية مستفيضة حفظت تاريخها قذة بقذة وحرفًا بحرف مذيلة بالتسلسل الزمني والتاريخي الذي بلغ أرهف درجات التوثيق والتدليل.
وليس هذا دليل على قوة الحافظة عند المترجم له، فقائمة علاقاته الأخوية وصداقاته الودودة لا تلبث إلا تقرير هذه السمة الواضحة، والتي يلمسها أدنى من تواضع حسه في الاستنباط والملاحظة والفراسة والدقة، ولغة النص علمية واضحة إدارية سليمة الألفاظ، جيدة التراكيب تسير وفق الخط والأسلوب الإداري.
والمترجم له أديب من الطراز الأصيل، شاعر جيد القريحة، حاضر البديهة طرق خياله الشعري كثب من إعلام وأعيان الزمان، ومن أبرزهم الأديب الذائع: أحمد الدامغ، حيث كتب عنه كلاماً رائعاً أصاب فيه كبد الحقيقة، حيث قال: (الشاعر عبد الرحمن أبو حيمد أحد أبناء عودة سدير الواقعة في أسفل وادي الفقي، له وقفات مع الشعر الفصيح، كما له مع الشعر العامي، وعلى الرغم من حداثة شعره وقصر مقطوعاته الشعرية إلا أن القارئ يلمس في شعره صدق العاطفة ورهافة الحس؛ وشعره العامي يغلب عليه الطابع الغزلي الخفيف، وهذا النوع من الشعر كثيراً ما تتداوله جلسات السمر والمجالس الشعبية).
هذا، وقد توقف ناسج السيرة الأستاذ الفاضل: يوسف العتيق عند الشعر النبطي للمُتَرجَم عنه، وفي حديثه عن جانب المُتَرجم له كشاعر وأديب وكاتب جاء الحديث حلواً سلسبيلاً مُضمناً بيراع أفذاذ القلم والنقد، وقد كشف الكتاب جانب الرواية عند أبي أحمد، وله القدح المعلى فيها، ومن رائق ما روى لنا، روايته الرائدة (نساء في مهب الريح) وقد لقيت من النقاد ترحيباً واستحساناً وقبولاً.
وقد جاءت هذه السيرة الإدارية مبطنة بذكر بطلها ومحرك الخطوط العريضة فيها، وجاء دوره فعالاً مبرزاً في سياق أحداث هذه السيرة، ووقائع مجريات هذه المسيرة، فغدت هذه الأحداث مذكرة إدارية ماتعة، لتسجل أحداثاً عاشها وخاضها وعاصرها معالي الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم أبو حيمد - حفظه الله ورعاه - وهي تسدل الستار على خدمة دامت في الدولة ثمانية وثلاثين عاماً وعشرة أشهر وتسعة أيام، وفي وزارة التجارة والصناعة منها ثلاث سنوات وخمسة أشهر، وفي معهد الإدارة العامة إحدى عشرة سنة وأربعة أشهر وخمسة أيام، وفي الحرس الوطني أربعة وعشرين عاماً وشهرًا واحدًا وأربعة أيام.
وقد سعدت بقراءة هذه السيرة أنس المستمع المُعجب، فهي تضم تجارب الشيخ ومعارفه وخبراته وحقائقه وتؤرخ للحياة التي خاض زمامها الشيخ في كل من وزارة التجارة والصناعة ومعهد الإدارة والحرس الوطني والتي غدت هذه الذكريات عدسة لاقطة للفترة الزمنية التي عاشها بطل الرواية في كل من المراكز الثلاثة ولا سيّما في الحرس الوطني وله فيه ذكريات نفيسة باعتباره شاهداً على الفترة العمرية التي عاشها بين طرفي الحرس الوطني.
ومعالي الشيخ عبد الرحمن أبو حيمد سموأل زمانه فهو لا يدع ذكريات حياته دون أن يشير لوالده بمرثية جميلة تحمل أسمى معاني البر والوفاء والصلة والإحسان يقول فيها:
مرحوم يا عود قبرناه بالعود
جاء الأجل واختاره الله جواره
عساك بالجنة من الرب موعود
وسط الرياض اللي تفتح نواره
وفي الكتاب ما نصه: (ثم يعرج الأديب الشاعر أحمد الدامغ على قصيدة «مرحوم يا شيخ» لأبي أحمد في رثاء والده، والمنشورة في ديوانه ص: 107 فيقول: «ورثى الشاعر والده إبراهيم ابن محمد أبو حيمد الذي وافته المنية في شهر شعبان عام 1408هـ في مدينة الرياض، عليه وعلى جميع موتى المسلمين رحمة الله، ولقد كان إبراهيم أبوحيمد - رحمه الله - جواداً كله شهامة ونخوة وحمية إسلامية قوامها البر في ذوي الرحم والأقرباء المحتاجين، وفعل الخير والسعي لتحقيقه كان مبدأ من مبادئ حياته التي عمرها بالصداقات ووثق عُراها بصادق محبته).
وللكتاب وقفة عند قصيدة خلاّبة أخّاذة لمعالي الشيخ عبد الرحمن وهو يخاطب الورد يدبجها قول الأديب أحمد الدامغ بالحرف التالي: (وللشاعر عبد الرحمن أبو حيمد وقفة أمام الورد والتحدث إليه بلغة الشاعر الذي يرسم لون الورد وعبيره، وما يفعله في النفوس التي تعشق الشذى وتستنشق الندى، وتطرب لرؤية الزهرة المتفتحة التي تذهب الحزن وتطرد الكآبة وتدخل السرور والأُنس على النفس... بل تفجر فيها القريحة الشعرية التي تخلبها المناظر الطبيعية التي تستنطق الطير فتجعله يصدح على أفنانها قبل الإنسان).
وعلّ من الجميل اتحاف ذائقة القارئ الكريم بهذه الخلجات الشعرية لمعالي المُترجم له يقول فيها:
يا ورد اللي في البساتين نشوان
من حين شفت الشمس ترسل سناها
في الصبح تتلون على كل الألوان
وفي الليل تضمر ما تواطن عماها
بنفسجي وأحمر لك القلب طربان
وأبيض يشوق النفس هو مبتغاها
وأخيراً، فهذه الترجمة جاءت من إداري فذ، سار الدنيا وخبر الناس، متنوعة بمعارف وأحداث وخبرات توحي بعقلية المُترجَم له وصدق الضمير، واتقاد الطموح وعمق الإنسانية.
** **
قراءة/ حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى -
عنوان المراسلة: hanan.alsaif@hotmail.com