خالد محمد الدوس
وُلد العالم الاجتماعي (أولريش بيك) في بلدة سوويسك ببولندا عام 1944، ثم اضطرت أسرته أن تنتقل بعد حرب العالمية الثانية إلى ألمانيا فنشأ وترعرع في مدينة هانوفر الألمانية التي حصل فيها على شهادة الثانوية العامة قبل أن ينتقل إلى مدينة فرايبورج لدراسة الحقوق في جامعتها، وبعد ذلك تمكَّن من الحصول على منحة دراسية وانتقل إلى دراسة علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس والسياسة في جامعة ميونخ التي حصل منها على شهادة الدكتوراه عام 1972 ثم توج مشواره البحثي والعلمي بحصوله على الأستاذية بعد سنوات من العطاء الأكاديمي والإثراء البحثي. بعد أن عمل في جامعة ميونخ كعالم اجتماع عام 1972 وجامعة بامبرغ عام 1981، ثم مديراً عاما لمعهد علم الاجتماع بجامعة ميونخ, ورئيساً لبرنامج أبحاث DFG حول الحداثة الانعكاسية، ومن عام 1999 إلى عام 2009 كان العالم الراحل متحدثا باسم مركز بحوث التحديث التعاوني 536 وهو اتحاد متعدد التخصصات «لأربعة جامعات» في منطقة ميونخ وتشرف عليه مؤسسة الأبحاث الألمانية (DFG) وعلى ضوء هذه المعطيات والمنجزات الكبيرة نال العديد من الجوائز والأوسمة.
نشر العديد من المؤلفات والدراسات الاجتماعية التي تمحورت في معظمها حول العولمة والحداثة والتحولات الاجتماعية والتطور التكنولوجي وآثارها على المجتمع الإنساني. وحاول (بيك) في معظم نظرياته أن يبحث عن الجانب الأخلاقي للعولمة والحداثة حيث أصاغ في كتابه الشهير مجتمع المخاطرة (1986) نحو حداثة جديدة, ويرى في كتابه الشهير أن المجتمع الحداثي الأول الذي اكتمل نضجه في الغرب في القرن التاسع عشر كان نتيجة لـ(آلية) ذات طابع جامد اكتسبتها حركة الحداثة الغربية بسبب نزوعها إلى نوع عملي غير أخلاقي, ثم بسبب نزوعها النفعي الأناني. قدم العالم الراحل العديد من المؤلفات بالإضافة إلى كتابه الشهير (مجتمع المخاطرة).. صدر له كتاب (مجتمع المخاطر العالمي) عام 2006 الذي ترجم إلى عشر لغات..! حين عرّف (مجتمع المخاطر) بأنه حالة من توافق الظروف أصبحت فيها فكرة إمكانية التحكم في الآثار الجانبية والأخطار التي يفرضها اتخاذ القرارات محل شك. أي وصف الطريقة المنهجية للتعامل مع المخاطر وانعدام الأمن الناجم ويتم عرضه من قبل الحداثة نفسها, وكتاب ما هي العولمة ؟! الذي ترجم إلى العربية. وكتاب القوة والقوة المضادة في عصر العولمة, وكتاب السياسة في مجتمع المخاطرة.. وغيرها من الكتب والمؤلفات التي تثري كل من المكتبة العلمية والعامة على حد سواء.
ويعتبر العالم الراحل (أوبريش بيك) من أشهر علماء الاجتماع الألمان المعاصرين الذين تتعدى نظرياتهم وأطروحاتهم العلمية والفلسفية نطاق دائرة التنظير البحت والمجرد.. محدثةً أصداء واسعة وجدلا على مختلف الأصعدة والمستويات, خاصة وأنه تناول بالنقد والتحليل ظواهر اجتماعية وسياسية حية ومعاصرة كما ناقش قضايا شائكة ذات عمق فلسفي اجتماعي وسياسي مثل ما تناول في سياق العولمة والحداثة والرأسمالية. ونال على ضوء منجزاته وأبحاثه الغنية على أعلى جائزة عام 2005 تمنح في ألمانيا في مجال علم الاجتماع وهي (جائزة شادر) وذلك تقديرا لإنتاجه العلمي واعترافا بإسهاماته بتطوير وتأسيس فرع «علم اجتماع المخاطر». وهو فرع من فروع علم الاجتماع حديث نسبيا يهتم بفهم وتفسير ظاهرة المخاطر تفسيرا سوسيولوجيا بأسبابها ونتائجها في الحيز التاريخي والمجتمعي ككل, كما يسهم هذا الميدان وحسب مؤسسه ورائده (أولريش) بدراسة المخاطر الناجمة من عصر الحداثة وما بعدها, أي أنه يتناول بالدراسة المخاطر التي يعرفها عالمنا اليوم وأثرها على البناء الاجتماعي وهذه المخاطر الاجتماعية تختلف باختلاف المجتمعات وبنيتها الثقافية والاقتصادية, والأكيد أن هذا الفرع الخصيب يرتبط بإسهامات عالم الاجتماع الألماني (أولريش بيك) الذي يعزى له الفضل في صياغة مفهوم «مجتمع المخاطرة» بالإضافة إلى إسهامات علماء اجتماع مثل الإنجليزي أنتوني جيدنز والألماني نيكلاس لومان. كما أهتم العالم أولريش بالحركات البيئية في منذ الثمانينيات القرن الفائت والتي شهدت زيادة الوعي بتغيير المناخ ونموذج الأمراض الناشئة وهي الأمراض التي تظهر لدى السكان لأول مرة, وطبقا لرؤية العالم الراحل فإن البشر يرفضون التعامل مع المخاطر حتى يظهر تأثيرها المباشر عليهم. وقال على سبيل المثال التسمم الإشعاعي يبقى خطرا مجهولا وغير واقعي وغامض حتى يبدأ في المعاناة من التسمم أو يصاب الجنين بطفرة جينية مروعة تؤثر عليه. ومن الأمثلة التي ذكرها في كتابه الشهير (الإرهاب العالمي) غير المرتبط بدولة أو مكان والذي يستخدم وسائل وأساليب يصعب معرفتها أو توقعها مثل العمليات الانتحارية..!
توفي العالم الاجتماعي والمنظر المعاصر للحداثة (أولريش بيك) في 11 يناير 2015م عن عمر يناهز الـ 71 عاما عقب تعرضه لازمة قلبية فرحل بعد أن ترك أبحاث علمية ومؤلفات غنية أسهمت في نشأة وولادة فرع «علم اجتماع المخاطر» كعلم خصيب له أبحاثه ونظرياته ومقوماته العلمية. لينضم هذا الميدان الحديث إلى بقية فروع علم الاجتماع العام الذي يواجه التحديات ويواكب المتغيرات الزمانية بتأثيره وأهميته وتحولاته السوسيولوجية في عالم يموج بالتطورات المتسارعة.