سراب الصبيح
إن بلاغة الخطاب الحربي موضوع من الموضوعات الجيدة في الدرس البلاغي، لكن لا يُلتفَت إليه كثيرا من طلبة الدراسات العليا في هذا التخصص، فاتخذ هذا المقال خطبة «طارق بن زياد» أنموذجا؛ ليعرض لفكرة الموضوع، على أمل أن يتناوله أحد من الباحثين في أطروحته في خطب موسعة ومتعددة تكشف عن بلاغة الخطاب الحربي.
لاحظت مؤخرا أن هناك خلطا في مفهوم «تحليل الخطاب»، خلط من جهة أن المستوى اللغوي في التحليل لا يُحدد؛ فتقرأ هذا المسمى في عنوان الكتاب أو الدراسة، ولا تعلم أبلاغي يشتغل موضوع تحليل الخطاب أم لساني؟ أم حتى اجتماعي؟ فلا يُفرق بين مستويات اللغة الدقيقة، ولا تتحدد وجهة التحليل الذي يشتغل عليها الدرس، وبذلك تختلط آليات الدراسة كما تختلط تبعا لذلك النتائج؛ ولأجل هذا فقد حددت المستوى اللغوي الذي توجه إليه التحليل في هذا المقال؛ وهو المستوى «البلاغي».
وهذا ما يوجهني -بطبيعة الحال- أن أذكر أمرا في غاية الأهمية؛ وهو أني منذ فترة بعيدة كنت أقول إن البلاغة تتجاوز علومها الثلاثة التي تندرج تحتها الأجناس البلاغية إلى بلاغة المعنى. أقصد بذلك: تتكون البلاغة من ثلاثة علوم، تحت كل علم أجناس بلاغية، يعرفها المختصون، وهي من شأنها أن ترفع الكلام من مستواه العادي إلى المستوى البليغ الذي تأتي نتائجه في التأثير على المتلقي، كما تزين ظاهر الكلام، وأنا لا أدعو إلى الخروج ولا إلى التخلي عنها، لكني أشير إلى منطقة أخرى تتجلى بها البلاغة غير تلك الأجناس؛ وهي بلاغة المعنى، أي: قد يكون الكلام بليغا لكنه لم يوظف أيا من الأجناس البلاغية، فيكون بليغا في معناه، من ناحية ترتيب الجمل في صياغة الفكرة التي يجد معناها مستقرا شديد التأثير في نفس المتلقي، وعلى هذا الضوء سأحلل خطبة «طارق بن زياد» -رحمه الله-.
قال طارق بن زياد في طليعة خطبته: «أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر» إن هذه البداية باعثة على الحماس في نفوس المجاهدين في آخرها، بعد القلق في أولها، وهنا تتجلى بلاغة المعنى، فقد سألهم في البداية «أين المفر؟» وهذا تمهيد لما سيأتي من قوله، لكن السؤال: لماذا المفر؟ لا يفر الإنسان إلا من أمر شديد لا يريد مواجهته، وهذه طبيعة النفس البشرية في ساحة الحرب، بعد تمهيده في السؤال ذكر موقعهم الجغرافي، وهنا بتبين توظيف بلاغة المعنى، حيث وظف جغرافية الموقع ليستند به على بلاغة حجته، هذا الموقع الذي ينبئ به ألّا مجال للفرار، وهذا ما قد يثقل نفوس المجاهدين، لكنه بعدها فرج عن صدورهم في كلامه اللاحق الذي يشعر به المجاهد أنه في حماية الله مادام استعصم بالصبر وأخلص له نيته صادقا. كما أنه قد بدأ بالنداء؛ فنبه الغافل، وجذب إليه الانتباه، لكن كلمة «الناس» تخص الجنسين: الذكر والأنثى، كما أنها عامة، فلو أنه خص النداء بالمجاهدين؛ لكان أشد عزيمة في رأيي؛ حتى يتذكروا أن الله خصهم في فضيلة الجهاد.
ثم بعد ذلك يعود إلى عنصر الموقع الجغرافي قائلا: «واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدب اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألفت إليكم مدينته المحصنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت» وهنا أيضا يوظف طارق بن زياد العنصر الذي وظفه في طليعة الخطبة؛ وهو تقديم منطقة الضعف، ثم يعقبها بذكر منطقة القوة؛ وهذا في رأيي ما يميز خطبة طارق عن كثير من الخطب الحربية. فقد وظف الجناس بين «الأيتام» و»اللئام» في موضع ذكر به للمجاهدين أنهم الأضعف في هذه الجزيرة «الأندلس»؛ لأنها ليست أرضهم، في حين أنها أرض العدو، وهو أخبر منهم بتضاريسها، ثم استمر بذكر مناطق الضعف، من قوة سلاح العدو مقابل سيوف المسلمين، وقد كان بليغا جدا في اختياره كلمة «استقبلكم» دون «انتظركم» أو غيرها؛ لأن الاستقبال يكون بالترحيب والحفاوة، أما هنا فالاستقبال في الأسلحة السفاكة للدماء، وهنا انقلاب بلاغي بالمعنى يزيد التثبت في نفوس المجاهدين، ورفع الحماسة لديهم في الإقدام بهجومية شرسة وسريعة في آن ضد العدو، بدلا عن التقدم بخطوات متثاقلة وبطيئة؛ لأن كلمة الاستقبال تبعث في نفوسهم السرعة على الإقدام. ثم بعد ذلك يلعب على عنصر التخيير، بين جر أذيال الخزي في الدنيا، أو المجد والانتصار، وقد كان موفقا في توظيف بلاغة المعنى في رفع ثقتهم بأنفسهم حين ذكر لهم أنهم إذا فشلوا تجرأ العدو عليهم بعدما كانوا يرعبونه؛ وهذا ما يزيد ثقة المجاهدين من أنفسهم أنهم يرعبون العدو، ويرفع معنوياتهم.
ثم بعد أن ملأ نفوسهم حماسة للانطلاق بهجوم شرس وقوي ضد العدو، ذكر قائد جيش العدو حينها، بوصفه «الطاغية» يقصد «لوذريق»، وبذلك فإن كل كلامه السابق هو جلباب يلبسه المجاهدون في ميدان أي حرب، لكن بعد أن ذكر جيش العدو ممثلا في ذكر قائدهم «الطاغية» فقد وجه كلامه السابق العام إلى معركتهم الخاصة التي هم يصطفون على خيولهم تباعا لدخولها، وهي معركة «وادي لكة» لفتح الأندلس.
ومما لا شك فيه أنهم يرون في طارق بن زياد الأب لهم، فهو القائد الذي يحتمون به، ويتحركون بمشورته، وهو الدرع المعنوي لهم في هذه المعركة؛ فمن بلاغة خطبة طارق بن زياد أنه بعدما شحن نفوسهم في وقود الحماسة في أساليبه السابقة من ذكر مناطق القوة والضعف ومن أسلوب التخيير، وبعدما وصل إلى «الموت» وهو الموضوع الأثقل على النفس، فقد توجه للحديث عن نفسه، في كلام يطمئن به نفوسهم أن الأمر الذي هم مقدمون عليه وقوده وحدتهم، وترابطهم كأنهم قلب رجل واحد، وأيضا خفف من حدة خوفهم في كلامه الذي يدل على أن شجاعته التي هو مقدم على الحرب بها ليست شجاعة معصوم من القتل في الحرب، ولا شجاعة عالم بالغيب في النصر، بل هو مثلهم مقدم على جزيرة مجهولة عليه، فما شجاعته إلا شجاعة واثق بالله، منتصر به؛ وذلك كله تجلى في بلاغة المعنى في تراكيب جمله في الفقرة التالية حيث قال: « وإني لم أحدثكم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم دوني، بل أكون في مقدمة الزحف على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبدأ فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي».
يتضح للقارئ هنا أن خطاب الطمأنينة يتجلى في موقع طارق بن زياد في صفوف الجيش، فهو في مقدمتهم، درعهم وحصنهم المنيع، الذي يتصدى لاستقبال جيش العدو بكل ما يمكن أن يكون قد دبر لهم من الكمائن، والضحية الرخيصة هي نفسه ونفوسهم، وهنا تتجلى بلاغة المعنى؛ حيث إنه حين ذكر أن النفس أرخص ما بهذه الحرب، فلم يبقَ في نفوس المجاهدين ما يمكن أن يأسفوا عليه من خلفهم، وليس لهم إلا أن يتقدموا بشجاعة لحفظ هذه النفس. بعد ذلك يستخدم طارق بن زياد عنصر الصبر، وموقعه هنا هو غاية في البلاغة؛ لأنه ليس هناك ما هو أمر من الموت، فحين ذكر أمره، أي: الموت، طمأنهم أنه هو في مقدمة الجيش معهم في بداية خطابه بعد الموت، وفي نهايته حثهم على الصبر، وانتقل بعد الصبر إلى ذكر محاسن هذه الجزيرة، وأن فيها نعيما طويلا بعد معركة قصيرة، لمن صبر وانتصر؛ ليكون هذا الفوز بالنعيم عونا لهم في رفع عزيمة الصبر لديهم.
وبعد الإشارة إلى النعيم الطويل على أرض الأندلس؛ وهو معنى بليغ وظفه طارق لتستريح به نفوس المجاهدين بعد وقع الخطبة الثقيل، ينتقل إلى عناصر أخرى تستريح بها نفوسهم، وهي: فخر خليفة المسلمين بهم، وبأوصافهم العربية الباسلة، ومن ثم ذكر الغنائم، بعدها ذكر المجد في الدنيا والأجر في الآخرة، وهنا بلاغة في توظيف أربعة معانٍ تستريح بهن نفس المتلقي بعد ثقل الخطبة، فبعد ذكر الأمر الأول وهو النعيم على أرض الأندلس، يكمل بقية العناصر الثلاثة، فيقول: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله في إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي أنجادكم، صاحب معونتكم ونصرتكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.»
بعد ذلك يصل طارق بن زياد إلى نهاية خطبته، وسأورد قوله ثم أعلق عليه، قال: «واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لوذريق، فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون.»
لقد وظف طارق بن زياد أكثر من معنى بليغ في ختام خطبته، فأولا عزز بنفوسهم الطمأنينة في إخباره لهم أنه هو أول المتمثلين في كل ما دعاهم إليه؛ فضلا عن أنه هو المتكفل بقتل قائد جيش العدو، وفي «لوذريق» كناية عن جيش القوط الغربيين كاملا، وهذا ما يجعل المجاهدين يتطمأنون أنهم خلف قائدهم الذي لم يزج بهم في حومة الوغى ويقف خلفهم، وهذا معنى بليغ من نتائجه بعث الطمأنينة في نفوس المجاهدين. والمعنى البليغ الآخر الذي وظفه في ختام خطبته؛ هو الوصية، والوصية تنقسم إلى معنيين بليغين: الأول: فكرة الوصية نفسها، فإن طارقا لا يعلم ما سيلقى في هذه المعركة، فمن البديهي أن يوصيهم، وهذا المع نى الظاهر من الوصية، وأما الباطن فمادام قد وصاهم -وهو قائدهم- إذن فليس له مفازة من الموت إكراما له عليهم، وهو من يقتدون به، وهذا ما من شأنه أن يبدد الخوف من الإقدام على الموت في نفوسهم، وحب التمسك بالدنيا، بل يستريحون للموت في سبيل إعلاء كلمة الله. والثاني: أنه وصاهم بأن يتكفلوا هم بقتل «لوذريق» إذا مات طارق قبل أن يقتله، وهذا يعزز ثقتهم بأنفسهم، وأنهم مؤهلون لتولي قتله، وما ذلك إلا لأن كل مجاهد بينهم هو أشوس، صنديد، يقدر على قتل «لوذريق»، فكيف بقتل جيشه؛ وبذلك يدخل المسلمون ميدان الوغى وهم واثقون من أنفسهم أنهم يقدرون على هزيمة هذا الجيش الذي يفوقهم عددا، ما دام كل واحد بهم قادرا على قتل «لوذريق» كما وصاهم طارق بن زياد.
وختاما، فإني أعد خطبة طارق بن زياد لفتح الأندلس من أبلغ الخطب الحربية، لما تضمنته من بلاغة المعنى الذي وظفه طارق في مضامين الخطبة ومرامي مقاصدها، فضلا عن الأساليب البيانية فيها، والتي تناولها غيري بالدراسة.