د.حسن مشهور
تتعدد الأنواع الأدبية وتتمايز في قدرتها على تعزيز معادلة التأثير على المتلقي بحيث يكون مشدوهًا لها مدركًا لأبعادها الدلالية غير المباشرة، متأثرًا بها وساعيًا لاحقًا أي مستقبل لإحداث تغيير إيجابي في واقع حياته المعاشة أو لدى الآخرين ممن يتحكم بمآلات حياته ويمسك بزمام معيشته.
ومن تلك الأنواع الأدبية المؤثرة في واقع الإنسان ومعيشته، نجد الأدب الساخر Comic literature، الذي عرفته المجتمعات الأوروبية والغرب قبلنا بأزمنة بعيدة. وحين نتأمل الأدب الأوروبي والإنجليزي منه على وجه الخصوص منذ عصر الأديب الشهير «دريدن» وما تلاه من أزمنة أدبية سنجد تموضعات لقوالب كتابات أدبية ساخرة كانت تسهم في تصحيح مسارات العديد من الأداءت السوسيولوجية والسياسية في بلدان أوروبا وغيرها من بلدان الغرب.
فدول أوروبا قد أدركت أهمية الأدب الساخر ووعت الأبعاد التأثيرية له قبل قرون عدة، وما شخصية الجوكر الذي يرفه عن الملك ويطلق تعابير ساخرة في ظاهرها ومحملة بالنصح في باطنها في مسرحيات الإنجليزي ويليام شكسبير، إلا دليل آخر بيِّنٍ على ذلك.
عربيًا، تورد العديد من الأدبيات الكتابية بأننا قد عرفنا الأدب الساخر بصورته الراهنة المعروفة والماثلة للعيان في القرن العشرين، فنحن نجد الباحث نعمان طه (1979م) يصفه بأنه طريقة من طرق التعبير التي يستخدم فيها الشخص ألفاظًا تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة، وطريقة من التهكم المرير، والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان، وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفًا وإخافةً وفتكًا.
ومن وجهة نظري، أرى بأن العرب قد عرفوا هذا الضرب من الأدب قبل ذلك بكثير، ورأيي هذا لا ينهض على شيفونية عربية باعثها اعتزازي بكل ما هو عربي، وإنما هو رأي يقوم على الدليل العقلي، فتراثنا الأدبي العربي قد كان يزخر بالعديد من الأعمال الأدبية التي تصب في بوتقة الأدب الساخر.
فشعر الهجاء في صورته الأدبية الساخرة، أي التي تبعث على الفكاهة وتحمل في الوقت ذاته نقدًا عميقًا أو مرًا من الواقعية الحياتية المعاشة هو تأصيل لهذا الجنس الأدبي، فشعر أبي دلامة ومنه أرجوزته الشعرية الساخرة التي يقول فيها:
لا أبلغ إليك أبا دلامة
فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قردا
وخنزير إذا خلع العمامة
جمعت ذمامة وجمعت لؤما
كذلك اللؤم تتبعه الذمامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا
فلا تفرح فقد دنت القيامة
هي في تقديري، سخرية من واقع حياته ومرارة عيشه، وحالة الرعب التي كان يعايشها كونه قد كان عبدًا لرجل من أهل الرقة من بني أسد قبل أن يعتقه، ولكونه قد صار لاحقًا شاعرًا ونديمًا خاصًا لخلفاء بني العباس الثلاث الأوائل وهم السفاح والمنصور والمهدي، الذين اشتهروا بعنفهم ودمويتهم في التعامل مع خصومهم السياسيين.
وما قصيدة الشاعر المخضرم الحطيئة التي هجا فيها الزبرقان بن بدر الذي كان يعد أحد وجهاء بني تميم وفرسانها وساداتها، والتي قال فيها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فأنت الطاعم الكاسي
إلا دليل آخر على وجود هذا الضرب من الأدب في تاريخنا الأدبي العربي، فحتى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لم يفقه لتلك الأبعاد الدلالية لمقصد الحطيئة التي كانت تتموضع في البنية العميقة للنص.
إذ نجد أدبيات التاريخ تشير إلى إن خليفتنا الإسلامي الثاني، عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يرد على الزبرقان حين استعداه على الحطيئة بالقول: «ما أسمع هجاءً، ولكنها معاتبة».
وفي رواية أخرى: «أما ترضى أن تكون طاعمًا كاسيًا؟»، وفي رواية ثالثة إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رد على الزبرقان بن بدر بالقول: «ولكنه مدحك».
أي أن الحطيئة قد بلغ شأنًا ليس فقط في الشعر، وإنما في السخرية الأدبية بحيث قد صار قادرًا على تغليف السخرية بغطاء المدح، أو بعبارة أخرى توليد حالة من التعبيرية السخرية المعومة التي تسير بموازاة التعبير المادح، والتي لن يفقه لها إلا من وجه إليه هذا الخطاب الساخر، ليقينه بأن الخلاف الذي يجمعه مع صاحب الخطاب التعبيري لن يتولد عنه مديح، وإنما الشر على أي شكل كان.
وعلى الرغم من أهمية هذا الضرب من الفنون التعبيرية الإبداعية إلا أنه لم يلقَ ذلك الاهتمام من المشتغلين بالعمل الأدبي في الداخل السعودي، فخلال بحثي عمّا تم تأليفه خلال العامين الماضيين أي عامي ( 2021 - 2022م)؛ من نتاجات أدبية سعودية جادة تصب في قالب الأدب الساخر سواء أكان ذلك تعبيريًا أم نقديًا، لم أجد ولو كتابًا واحدًا، ما عدا بضع مقالات صحفية كتبت هنا أو هناك.