عهود عبدالكريم القرشي
قبل أشهرٍ قليلة، وتحديداً في أكتوبر 2022، صدرت الرواية الأولى للكاتب المسرحي: فهد رده الحارثي، عن نادي الطائف الأدبي ومؤسسة الانتشار العربي. خرجت للضوء تحت عنوان «في انتظار ديسمبر» وياله من انتظار يُثير التساؤل وربما الريبة! قررت خوض التجربة والتماهي مع الكاتب في مسألة ديسمبر، فاقتنيت الرواية من معرض جدة للكتاب 2022 والذي أقيم في شهر ديسمبر، ثم حرصت على قراءة الرواية في نفس الشهر الذي ينتظره الكاتب على أقسى من البرد!
وفي حالة تشبه حال الكاتب الذي إعتاد قلق السفر كل عام نحو المسارح، حاملاً حقائب الطموح، مُصارعاً الحمى والتعب، قرأت الرواية وأنا على سفر، في مدينة يحتضنها البحر وتراقص رماله، جالسة بالقرب من نافذة مفتوحة على مصراعيها للريح، للغرباء، لعابري الشوارع، و الناقمين على الشمس والرطوبة! قرأتها صباحاً واكملتها ليلاً في يوم واحد، في صمت المكان نفسه، ولجة الوحدة التي نجح الكاتب في انتشالي منها بالحركة الدائمة في صفحات روايته! أتراه ديدن كتاب المسرح، أعني الكتابة بأفعال مضارعة مستمرة الحركة والحياة لا يهدأ تأثيرها؟ ربما!
أما عنوان الرواية فيبدو أن «الحارثي» أخذ على عاتقه أن يكون عنوان روايته حياً على أهبة الوصول يوماً ما! لم يخرج من تأثير المسرح عليه فجاء بعنوان متحركٍ رغم الانتظار الساكن! اختار العنوان بصورة شاعرية، يثبتُ بها سطوة ديسمبر البارد على قلب بطل الرواية، فهو لم يعنون الرواية بحب ديسمبر، أو لقاء ديسمبر، أو وربما حكاية ديسمبر، بل اختار «في انتظار ديسمبر»، جعل العنوان قائماً على مسرح الحياة منتظراً أبد العمر!
تتوشح رواية «في انتظار ديسمبر» غلافً أبيضاً بارداً كما يجب أن يكون ديسمبر! وفي منتصف القلق الأحمر يجلس رجلٌ على مقعد حديقة غير مكترث لنا نحن القراء! ويبدو أن حرارة الانتظار أشعلت دماء الرجل وأدمت المقعد والأرض من تحته! وحده الأحمر لون المُحبين، ولون المتحاربين! فعلى أي الدماء يجلس بطل رواية «الحارثي»؟
تأتي رواية «في انتظار ديسمبر» بلا إهداء، كأنها وجدت كي تُهدي نفسها لمن يقرأها! في الصفحة الأولى، في السطر الأول بعد تحديد المكان والزمان والتاريخ يقول «الحارثي» على لسان البطل: «عائد في منتصف الليل تماما أقطع المسافة بهدوء، اتدثر بصمتي، في يدي قنينة ماء أريد أن أشرب منها، وأفكار متداخلة في ذهني كنت أتسلى بها وأنا في انتظار وصولها.» ص5. كلمة «عائد» التي استفتح بها الرواية هي كلمة السر ومفتاح لعبة الانتظار، بل ربما أن الرواية بأكملها هي بمثابة خط رجعةٍ لذكريات تتأجج في صدر الصمت و يلوكها الصبر!
أخذنا «الحارثي» إلى تونس الخضراء، ببراعة مسرحي يعرف أثر الكلمة والفعل، يفهم تأثيث المشهد، و»تلبيس» الشخصيات، طاف بنا في شوارع تونس ومسارحها «نحن الآن أمام المسرح البلدي» ص 17. ومعه «وصلنا إلى المقهى العتيق في نهاية الممر الطويل داخل السوق العتيقة» ص28 وصافحنا رجالاً ونساءاً وعشاقاً!
ثم تمضي الأحداث في صالات المغادرة، داخل الفنادق، خارج المنازل، وفي الطرقات! حوارات مباشرة وأخرى مُتخيلة وثالثة عبر الهواتف أو النوافذ! لقد أوجد «الحارثي» عالماً متحركاً بين سطور روايته، الأحداث تمشي الهوينى، الشخصيات تتراوح بين أناقة الحضور، وضبابية المواقف، و احتمالية الاختفاء! و صفحة بعد صفحة ينمو الحب، تحترق الحمى، تُعمل القهوة، تؤنث الدمعة، والنساء «يخرجن من الشرفات ينشرن ملابسهن على حبال الوقت» ص47.
وفي لجة أحداث ديسمبر، يشرح «الحارثي» ويشرّح مشاعر الرجل العاشق المتردد! خوفه من المنافس القديم، محافظته على مسافة تعبير بينه وبين من يعشقها، وأحلامه التي يسجنها في فؤاده ويطلق سراح القليل منها في حضرة من يُحب! يقف ذلك العاشق على مفترق الصمت أو الاعتراف! هو عاشق مع وقف النبض والتعبير، ينتظر لحظة البوح المناسبة فتخونه الظروف والتوقعات! يشفق على قنينة الماء، أكثر من اشفاقه على قلب امرأة تحترق لبوحه علناً! كان رجلاً قرر متأخراً البوح عن حبه!
وبينما انتظار ديسمبر قائمٌ على أشده، لوّحت جماليات النص بحروفها ومعانيها! قال الكاتب واصفاً بزوغ الفجر: «لم يكد الفجر يرتدي ثيابه ويظهر…» ص 54، كما اخبرنا عن حال الشمس عند وصوله مدينة نابل التونسية «وصلنا لنابل والشمس تخرج منها وتودعها» ص47. في أزمة الانتظار «كان الوقت يمضي كشمعة، تذوب فيحترق صبري» ص6 وفي طريق عودته نحو الفندق ترك سؤالاً «معلقاً على فانوس الإضاءة» ص27. وأما حرف «لا» الذي تعهده «الحارثي» بأقوى معاني الإعجاب فجعل منه سلماً موسيقياً وعزفاً أنثوياً يصرع العاشق أو يكاد! «كان حرفاً صغيراً وبسيطاً وناعساً وناعماً ووردياً…أصبحتُ مغرماً بحرفها أكثر منها» ص23.
عاد البطل في الصفحات الأخيرة لمسرح الأحداث، بعد عدة سنوات، يتفقد حبه وقصصه، وشخصيات روايته! ثم حَزَمَ حقائب الذكرى، وتوجه نحو المطار هارباً أو منهزماً لا فرق! حينها كتبتُ في الصفحة الأخيرة، «ترقص بنا هذه الحياة بين الحب واللاحب!
خرجت هذه الرواية من «درج» التردد، وعرضت لحرارة المطابع، ورياح المكتبات، كي نقرأها ونقتفي أثر الحقيقة فيها والخيال!