د. شاهر النهاري
قل لي أين عشت، ومع مَن مِن العقول، وما هي رغباتك النفسية الأولية، وتطلعاتك في التعايش أو الظهور بين الآخرين، وما هي أصول ثقافتك، لأفهم كيف تفكر بعقلانية، أو كيف تلتزم الوهم أو شمولية وضيق المنطق حينما تبرر.
بداية فالفكر الحواري على مختلف المستويات قد يعتمد على المنطق، والذي تبنى عليه معظم الأسس الفكرية الأصيلة المتينة، ولكن وللأسف فليس كل الأشخاص قادرين على فهم المنطق، ولا التعايش معه، ولا تصديق منخله، الذي يمنع الشوائب من دخول دقيق الفهم، حتى لو ادعوا ضلوعهم فيه.
المغالطات الفكرية بحيرات لزجة داكنة يعيش في مجاريرها معظم زواحف وحلزونات وعقارب البشر، وممن لا يرغبون في الخروج منها، اعتقادا منهم بأنها المعيشة الأفضل، يؤمنون بجدواها كما هي، فلا يمسحون أعينهم المغطاة بطحالبها، ولا يطمحون لرؤية الأبعد والأصدق.
أمور قد تبدو واضحة بالتعود والترديد والقوالب الغالبة على الفكر، ولكن الغامض يحتاج حلحلة، والمعضلات لا يمكن حلها بمجرد وجود الأجوبة القديمة الحاضرة، ولا بد لها أن تُدرس بالواقع والمستجد والمنطق حينما تطرح بين البشر، سواء في الواقع الحقيقي المعيشي الملموس، أو في عوالم التواصل الافتراضية، وحينها لن يصعب الحصول على الرأي السليم يتنفس حرية بين رئتي العالمين، فنكتشف معها العجب العجاب يحكم، ويتحكم، وكل رأي مهما نشز وخرج عن المسار، يظل يفاخر بأنه مختلف، ومهما كان اختلافه غير منطقي، وغير عقلاني، كون صاحبه ينظر للأمور من زاوية عينه الضيقة، المليئة بالطحالب.
كل رأي ومهما كان نقيا واضحا، تجد له الكثير ممن يشككون فيه، ومن يحبطون وجوده، ومن يرسمون ويلونون، ويبنون رجال القش لهش الطيور، ويحتالون باختلاق المعضلات غير المنطقية، والانحيازات الفكرية، والتي تصبح في حواراتهم وسيلة منفلتة، لمن لا يقدر أسس المنطق، ولا يعرف كيف يكتشفه، ويحافظ عليه، ما يجعلنا نلمس ونرى العجب بالتنافر المريع، والآراء المتكالبة غيا على ألا تتفق، والتي تريد أن تصنع لها طريقا هشا، ولو كان هامشيا، لا يعرفه سواهم، ومهما هدمت من حصون العقل، وشتتت من قلوع المنطق، وبنت لها شباك من الوهن والكذب، والادعاء، كونها لا تهدف أصلا لبلوغ حقيقة، بقدر ما تبحث عن رفعة الأنا ولو كان الثمن ضياع وتعويم أسس الحقيقة، وتفتيت جهود الفكر ومنهجياته، وقطع حبال الربط وإغراق الحقيقة، فحينها تتساوى العقول، ويصبح الجميع سواسية، لا راية لأحدهم يرفعها لقيادة الرأي، إلا لو كانت راية جهل ما أنزل الوعي بها من سلطان.
كثرة عناصر الحدث وتراكمها، قد تكون أحد أسباب عدم التوافق الفكري على نتيجة ما يصنعه الحدث صغيرا أو كبير، وهي تعطي الفرصة للخلاف، والفرجة لمشكك يدخل من أي فتحة إبرة، وأن يلصق ما حوله بصمغ الوهم، وشبه المنطق متعمدا رفع هامته والبقاء وحيدا متفردا، لا أحد يعرفه، ولا يتعامل معه إلا بالنكران، والتضعيف، والتخريب، والتكذيب.
المنطق علم قائم بذاته، وللأسف أن الأغلبية بيننا توقفوا عند مقولات أن المنطق «دو دو دو دو»، كما داعبتنا مدرسة المشاغبين وسهلت طريق الهروب من حرجه، فحطت من طموحنا في بلوغ حقائق المنطق الحقيقي، الذي يقسم المتحاورين إلى عدة أقسام، أحدها يؤمن بمعادلات المنطق، والآخر لا يطولها، والثالث يريد المشاركة بقدم عرجاء، والرابع يمتلك البدائل فيبدع في قدرة صنع المصدات المانعة للمنطق.
المنطق علم أصيل ومعرفة واثقة، يعجز الأبناء عن بلوغها طالما أن الآباء لا يفقهون أصولها، والتربية تصنع العقول، ومنع السؤال كارثة، وتنميط العقول بترديد المسلمات يجعلها تتماهى، وتبتعد عن قدرات المنطق، تحقيقا لرزية العصر الحالي والقادم، والتي تخلق أجيالا من السفسطائيين غواية، كما نشاهد على حوارات وتعليقات مواقع التواصل، وممن لا يحسنوا أصول البناء، ومن تربوا على احتقار الرأي المخالف لرؤيتهم والتشنيع عليه وتحقيره مهما بلغت صحته، ويجنحون بسرعة لوهم مغرور تنامى في ذواتهم، وأفكارهم، مهما كانت عهن عنكبوت، فلا يقبلون أن يتوقفوا حينما يشاهدون سطوع الحق، وبقدرة الحرباء، على الظهور بألف لون وملمس، لإخفاء جذع الحقيقة، والبقاء في إطار ادعاءات صور يظنها السطحي صحيحة، وهي أحماض حارقة تعيث بالعقول، وتعشق الترديد، ولا تفهم ما المنطق، ولا ما هو فرقه عن معضلاته الفكرية، التي يبرع في سردها أصحاب الألسن، من لا مصداقية لهم، ومن يكتبون الخواء.
المناهج التعليمية أيضا، لم تكن يوما تستخدم المنطق، ولا تطوع العقول للإحاطة بطرق كشف التحايل عليه، ومن يقومون بالتدريس هم أيضا ضحايا الواقع المعاش، وهم بأنفسهم يحملون جراثيم تبديد الفهم والمنطق، ويكتفون بكلمة من هنا، وصورة مهشمة، ومقولة من هناك، ولكم يصعب عليهم بناء منطق عقول الناشئة، من خلال تفكيك المعاني، واستخدام العلم التجريبي وتطبيق المنط ق، فيظل الوهم حية تسعى، وتأخذ في ذيلها الزاحفين، إلى بحيرة الركود، والترقب، والإنكار، واقتناص أي متحرك حولهم، بألسنة مطاطة ودون منطق، وبعقول جبلت على التكذيب، والتشكيك، والتحايل اللفظي، والخمول الفكري.
كم هو جميل أن نعرف المنطق، وأن نبحث عنه بأنفسنا في مراجع علمية متخصصة.
وكم هو أصيل وعظيم أن نتعرف على المغالطات المنطقية، والانحيازات الفكرية، والمجتمعية، وأخطاء انتخاب الذاكرة، وأن نعرف أنها مجموعة كبيرة من المغالطات، مثل «الصورية «وهي مغالطة يمكن ملاحظتها في تكوين حجة المتكلم، و»المغالطة الافتراضية» وهي أخطاء في حجج الاستدلال، متكونة من افتراضات متراكبة مركبة، و»المغالطات الكمية»، وهي خطأ في الحجة عندما تكون أجزاء المقدمة متعاكسة مع أجزاء الاستنتاج، و»مغالطات القياس الصورية، وغير الصورية»، وهي نمط من التفكير والاستدلال له نتائج خاطئة بسبب عيوب في بنيته المنطقية و»مغالطات المقدمات الباطلة»، بالمصادرة على المطلوب منذ البداية قفزا على النتائج، و»الاستدلال الدائري»، بأن يستدل على صحة الأمر بجزء منه، لا يتفق عليه المتحاورين، و»السؤال الملغوم»، يفجر مسار الحوار ويأخذه لمنحنى بعيد، ومغالطات «التعميم الخاطئ»، بشيوع المقولات المقدسة، والتي لا يتم نقاشها، مع اعتبارها ثوابت دائمة، ومغالطات «الارتباط، بالمطالبة بالحجر على الفكرة»، و»الاحتكام للجهل»، فما دام أن المعلومة مجهولة، فهي بالتأكيد تعني قصد المحاور، ومغالطة «تجاهل المطلوب»، بأخذ الحوار إلى مناطق لا يكون فيها ردا على أسئلة تطرح، و»التشكيك في صعوبة الفهم»، بالاستنقاص من ثقافة وعقلية المحاور، ومغالطة أخذ الحجة من مجرد السكوت، ونزولا على أن السكوت يعني الرضا، ومغالطة «وأنت كذلك» التي تنفي مناقشة العلة الأصلية، وختاما بمغالطات «الرنجة الحمراء»، وهي تتمثل بعرض بيانات أو موضوعات أو أسباب جاذبة خارجة عن الموضوع لتشتيت الانتباه عن الموضوع الأصلي.
كل تلك لم تكن إلا بعض عناوين عريضة لمعاني ومناهج واستخدامات وتنوع المغالطات المنطقية، التي تستخدم أمامنا بشكل يومي، ونحن لا نتمكن من الاحتكام إليها، ولا توضيحها على عجالة لمن يحاورنا، ومحاولة جعلها أسس قويمة لا يمكن تخطيها، والمطالبة بعدم تكرارها.
أنا أعرف أن الكثير منكم سيطالبني بمزيد من التوضيح، بل والإسهاب في شرح كل نقطة، غير أن مجال المقال ومحدوديته تحكم بتمثل نثر التراب وزرع المصابيح على الطريق، وليس بالمشي فيه خطوة خطوة، حيث أن ذلك الجهد يحتاج منا جميعا للعودة لمراجع الفلسفة والمنطق، حتى نفهم كل معضلة على حدة، وأن نتعايش معها، ونتدرب، ونجرب، وبالتالي أن نتمكن من اكتشاف علاتها إن استخدمت في الحوارات منا أو أمامنا، ما سيعطينا القدرة على الفهم، والحوار المنطقي.
وبالتالي سنجد الاختلافات ترتقي، وتتأصل في الفهم وتجعل طرق الفكر والحوار بيننا تختلف، ولن نلبث بعدها أن نجد الاحترام في الحوار يسود، وأن كل منطلق جديد يبنى على معرفة، وليس على ترديد، وتمييع الفكر، وبالتالي نصبح منطقيين في أفكارنا وحواراتنا، ونطور طرق محادثاتنا مع أبنائنا، ومع أقرب الناس لنا، لنساعد على خلق مجتمعات منطقية، وأجيال قادمة تمتلك الفكر النقي، والفهم المشترك المحترم، وتخطي تراث التعود والترديد الغث، والتحول إلى العقلانية القوية بكياناتها العلمية، والتي تستطيع التأسيس لحياة علمية، تساعد على فهم الحياة، وبناء التطورات الفكرية العلمية والتقنية، بمجرد شربات هنيئة من خلاصة عصير المنطق، والبعد عن تزييف المغالطات، التي ذبحت فينا خرفان العقل بشفرة التوهان.